حسبما قاله المؤرخ اللبناني كمال صليبي، لبنان ليس بلدا، بل هو المكان الذي عاش فيه المسيحيون والمسلمون ذات مرة جنبا إلى جنب، وفشلوا في التوصل إلى رؤية مشتركة حول وطنهم. في البيت اللبناني الذي يتكون من الكثير من القصور، كما يطلق على بلده، توجهت أنظار المسيحيين نحو أوروبا، بينما ظل المسلمون يتعلقون بإطار عربي قومي واسع.
كثيرا ما قاتل أصحاب القصور بعضهم بعضا، بينما ظلت فكرة لبنان على قيد الحياة، بل وازدهرت في ظلال العنف والطائفية والفساد.
ومع الأزمة الحالية التي نجمت عن استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري التي أعلن عنها في الرياض، توشك هذه القصور العديدة تارة أخرى أن تهتز من قواعدها.
المزيد من القصور
لم يخطر ببال مؤرخنا العزيز، الذي كان يكتب مباشرة بعد الحرب الأهلية التي أتت على البلاد بأسرها، أن تتفجر أزمة لبنان الحالية والتي تسعى فيها المملكة العربية السعودية وإيران نحو إيجاد المزيد من القصور لتضاف إلى القصور اللبنانية التاريخية.
ولم يتوقع أن تحتل إيران مكان المملكة العربية السعودية كلاعب إقليمي رئيسي في بلد ظل ضمن دائرة النفوذ السعودية منذ تأسيس الجامعة العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
ما فتئ رؤساء الوزراء اللبنانيون المتسعودون – والذين ينبغي بموجب الدستور أن يكونوا من السنة – يجمعون باستمرار ما بين مصالحهم المالية في المملكة العربية السعودية حيث حققوا ثرواتهم وبين كونهم رؤساء وزراء لبنان. فقد كانوا يحملون جنسيات مزدوجة ويتمتعون بحرية العمل في البلدين.
فمن حسين عويني إلى رياض الصلح إلى رفيق ثم سعد الحريري، ثمة تاريخ طويل من المال والسياسة، وربما في بعض الأوقات المصاهرة مع كبار الأمراء السعوديين، بهدف ترسيخ وتعزيز علاقة يشوبها الاضطراب، تكون السيطرة فيها في العادة للرياض تحقيقا لأهدافها هي بينما تعود بعض الفائدة على العائلات السنية اللبنانية. فعلى سبيل المثال كان جد الوليد بن طلال، المعتقل حاليا، هو رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح.
ولكن، الأهم من ذلك كله، هو أن رؤساء الوزراء هؤلاء كانوا شديدي الحرص على الدفاع عن المصالح السياسية السعودية في لبنان. في خمسينيات القرن الماضي خشيت المملكة العربية السعودية من أن يتمكن الهاشميون من كسب عقول اللبنانيين السنة، ثم بعد ذلك خشيت أن يتحقق ذلك للقومية العربية التي كان يتزعم تيارها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والتي كانت تهدد بغزو عقول وقلوب كثير من السعوديين الذين جاءوا للدراسة في لبنان.
وعندما تجمع ما يسمى الأمراء الأحرار (وبشكل رئيسي طلال ومنصور أولاد عبد العزيز) داخل فندق سان جورج على شاطئ بيروت في مطلع ستينيات القرن الماضي ليطالبوا بملكية دستورية ويشنوا هجوما على الملك سعود ثم الملك فيصل ناعتين إياهم بعملاء الإمبريالية، ظن النظام السعودي حينذاك أن لبنان لا يأتي منه سوى المشاكل.
الاستراتيجية السعودية
لقد أصبح ذلك اليوم تاريخا. إلا أن التحول نحو حزب الله لا يقل تهديدا من وجهة نظر السعودية التي تحمل إيران وحزب الله المسؤولية عن صاروخ الحوثيين الذي وقع اعتراضه في سماء الرياض يوم الرابع من نوفمبر / تشرين الثاني.
تتهم المملكة العربية السعودية كلا من إيران وحزب الله بتدريب وتسليح الحوثيين، والذين تخوض معهم قتالا منذ عام 2015. وبعد حادثة الصاروخ اعتبرت السعودية أن لبنان هو الآخر قد أعلن الحرب عليها.
منذ الخمسينيات، كانت استراتيجية السعودية تقوم على تعضيد وتمكين الطبقة السنية اللبنانية البرجوازية الموالية للسعودية مع تصميم على التخلص من التهديدات القومية واليسارية النابعة من قلب بيروت.
وبينما كان البرجوازيون اللبنانيون السنة ينضوون تحت جناح السعودية كان عامة السنة في الطريق الجديدة وفي رأس بيروت يهتفون بشعارات الناصرية ويرون أنفسهم منارة للقومية العربية.
هؤلاء، ومعهم اللاجئون الفلسطينيون، أصبحوا شيئا مرادفا لبيروت الوطنية. ولما مات جمال عبد الناصر فجأة في عام 1970 اكتظت بهم الشوارع والطرقات وقد خرجوا حزنا عليه.
أما اليوم، فها هم سنة لبنان يلصقون صور الملوك السعوديين ويعلقونها في شوارعهم وأحيائهم. وهذه تقابل صور الخميني والخامنئي وغيرهما من الشخصيات الإيرانية التي لا يكاد يخلوا منها جدار أو لوحة إعلانية داخل الأحياء الشيعية.
في ضوء هذا التاريخ من الارتباطات السنية السعودية، بدأت إيران منذ الثمانينيات في تعزيز القصر الشيعي الذي طالما تعرض للإهمال والتهميش من قبل السياسات الطائفية التاريخية في لبنان والتي رسم إطارها الفرنسيون بموجب ما منحوه من انتداب، ثم تتالت الاحتلالات الصهيونية المتكررة للجنوب حيث كانت تعيش الغالبية العظمى من الشيعة.
قام الإسرائيليون منذ سبعينيات القرن الماضي بالعديد من الاجتياحات العنيفة مما أدى إلى الإفقار والتشريد وتدمير البلدات والقرى والحقول الزراعية. ولولا الدعم الذي تلقاه حزب الله من إيران لربما ظل جنوب لبنان حتى الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي.
انهيار قصر الحريري
أصبح البرجوازيون السنة في بيروت وصيدا وطرابلس وفي غيرها من المدن أدوات مهمة بأيدي الملكة العربية السعودية لتمكينها من الاحتفاظ بموطئ قدم في لبنان وحراسة البلد من التغلغل الإيراني.
عزز رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري من ثقة السنة في لبنان، وقام في نفس الوقت ببناء امبراطورية مالية داخل لبنان وداخل السعودية على حد سواء. وفي فترة ما بعد الحرب، برز من خلال جهود إعادة الإعمار كرجل أعمال قوي لديه من القدرات المالية ما مكنه من سحق صغار التجار ورجال الأعمال لصالح اختراق رأسمالي عالمي.
لقد أضحت اليوم منطقة سوليدير المركزية، وهي تجمع للمؤسسات المالية ومرافق التسلية، منطقة شبه مهجورة لا يطيق التردد عليه معظم اللبنانيين.
بعد اغتيال رفيق الحريري في عام 2005 أصبح ابنه سعد هو وجه القوة السنية، وإن كانت قوة متراجعة في لبنان. كانت الأموال التي تُجنى في المملكة العربية السعودية تترجم إلى عمل خيري في لبنان. وأصبحت علاقات الراعي والرعية هي قلب الزعامة السنية، مثلها مثل الزعامات الطائفية الأخرى.
ولكن منذ أن جاء الملك سلمان إلى السلطة في عام 2015، وتصادف ذلك مع هبوط حاد في أسعاد النفط، انهار قصر الحريري المالي في المملكة العربية السعودية وبدأت تظهر في قصره السياسي صدوع في لبنان.
أقالت شركة سعودي أوجيه، المؤسسة الأم في ممتلكات الحريري، كثيرا من موظفيها، الذين تخلت عنهم حتى دون أن تدفع لهم مستحقاتهم، فعادوا إلى لبنان لا توجد أمامهم فرص للحصول على وظائف في الوضع الاقتصادي المتراجع. بدأوا يعرضون للبيع شققهم التي اشتروها بملايين الدولارات، ولكن لا يلوح في الأفق من يرغب في الشراء.
يبدو أن المملكة العربية السعودية فقدت أهميتها التاريخية في لبنان بينما راحت إيران تعزز من وجودها هناك.
كانت الورقة الأخيرة بيد المملكة العربية السعودية لتناوئ إيران هي استدعاء سعد الحريري، رجلها في بيروت، إلى الرياض حيث ظهر فجأة وهو يقرأ دون سابق إنذار خطاب استقالته من منصبه في نفس الليلة التي بدأ فيها محمد بن سلمان حملته التطهيرية ضد الفساد.
وبذلك تصبح في مهب الريح تلك الاتفاقية التي بموجبها عاد الاستقرار إلى بيروت ونجم عنها انتخاب رئيس للبلاد بعد فراغ دام عامين وعودة سعد الحريري إلى رئاسة الوزراء.
إلا أن لبنان واحد من تلك الأماكن التي طالما كان المجتمع بقصوره الطائفية دائما أقوى من الدولة. ويستمر في العمل دون قوة مركزية، نظرا لأن هذه القوة المركزية لا تملك توفير احتياجات المواطنين الأساسية ناهيك عن أن تحقق لهم الازدهار الاقتصادي أو توفر لهم الحماية ضد الاختراقات والاحتلالات الإسرائيلية المتعاقبة.
ومثلهم مثل الفلسطينيين، يعيش من اللبنانيين خارج لبنان في المهاجر عدد أكبر بكثير ممن يعيش منهم داخل البلاد.
سلام هش
إذا ما تمخض التنافس الإقليمي السعودي الإيراني عن تفجر مواجهة عنيفة من نوع ما داخل لبنان، فلن تقتصر تداعيات ذلك على اللبنانيين، بل سوف يُجر نحو الصراع آلاف الفلسطينيين واللاجئين السوريين.
لو حصل ذلك فقد تحل بعتبة باب أوروبا أزمة لاجئين جديدة، الأمر الذي ينبغي أن يمنع أي بلد أوروبي من تشجيع المخططات السعودية أو التورط في التواطؤ معها لقلقة السلام الهش القائم حاليا بين قصور لبنان المتعددة.
من حسن الطالع أن سفراء الاتحاد الأوروبي في لبنان عبروا عن دعمهم للدولة اللبنانية ولم يبدوا أي نية في المساهمة بتأجيج الوضع من خلال دعم المزاعم السعودية بأن لبنان هو الذي أعلن الحرب على المملكة.
سيكون بإمكان المملكة العربية السعودية الإخلال بتوازن الوضع في لبنان فقط من خلال العمل مع إسرائيل، البلد الوحيد الذي يملك قدرات عسكرية تهدد السلام الهش في لبنان. هل يمكن أن يصل الأمر بمحمد بن سلمان لأن يبرم صفقة مع إسرائيل يمنحها فيها التطبيع الكامل مقابل أن تقوم إسرائيل بتدمير حزب الله وإيران في لبنان؟
ينبغي ألا نستبعد ذلك، لأنه لا يبدو أن الأمير الشاب يفكر كثيرا بعواقب أفعاله.
وإذا كان القمع الذي يمارسه داخل البلاد واعتقاله لأبناء عمه مقياسا لما يمكن أن يصدر عن محمد بن سلمان، فإنه يتوجب على المجتمع الدولي، وخاصة أولئك الذين سيتأثرون بشكل مباشر من إجراءاته في لبنان، أن يمارس الضغوط عليه لوضع حد لأوهامه بأن بإمكانه أن يصبح سيد العرب والمدبر لشؤونهم من الشام إلى عدن.
كما ينبغي على المجتمع الدولي أن يظهر تضامنه مع لبنان من خلال التنديد المسبق لأي عدوان إسرائيلي محتمل على لبنان.
ميدل إيست آي