أثبتت دولة ما بعد الاستعمار العربية بشقيها الجمهوري والملكي انها مستعصية على الثورات الشعبية التي انطلقت في المنطقة خلال الاعوام الثلاثة السابقة ليس لانها كانت رمزا للحكم الرشيد بل لان خصائصها مكنتها من الانتشار عاموديا وافقيا في المجتمع بشكل فج له ديمومة فاقت قدرة الحشود والجماهير على تفكيك مفاصلها مما ادى الى تأخر انبثاق منظومة جديدة للحكم تكون اكثر ملاءمة وانسجاما مع طموحات هذه الجماهير والتي حتى هذه اللحظة لم تتمكن بعد من تغيير حقيقي ولو انها بدأت مسيرة قد تطول لفترة قادمة فالشوط الاول كان بالفعل قد بدأ رغم كل الظروف التي تحرك خلالها. فالعقبات التي واجهتها هذه الحشود تنبثق من طبيعة هذه الدولة القائمة والتي ورثتها المنطقة بعد حركات تحرر استهلكت جهدا كبيرا. فتتسم دولة ما بعد الاستعمار بالخصائص التالية.
اولا: بنيت الدولة الحديثة على استئثار شريحتين: عسكرية في الجمهوريات وعائلية في الملكيات استطاعت اقصاء شرائح اخرى اجتماعية وسياسية وفكرية فاستفردت بالحكم وتحولت الى مؤسسة ازداد عدد افرادها مع الزمن وتشعبت مصالحها فدخلت الى المجتمع بثقلها ليس فقط كطبقة حاكمة بل طبقة اقتصادية دمجت نفسها في فرص التنمية والاستثمار فأحكمت قبضتها على التجارة والمفاصل الحياتية وان كانت قد اشركت بعض الشرائح الموالية الا انها حددت قواعد اللعبة المرهونة بكونها المركز والاصل وغيرها الطرف المنتفع الذي لا يملك اي استقلالية عنها. ورغم ان الطبقة الحاكمة وسعت دائرة المنتفعين وحلقة المرتبطين بها الا انها ظلت مهيمنة على الفرص توزعها حسب متطلبات الولاء السياسي مما عطل بروز حياة اقتصادية مستقلة عن السياسة ومعطياتها.
ثانيا: رغم انبثاق بيروقراطية مرتبطة بالدولة ومؤسسات كثيرة الا ان الطبقة الحاكمة عطلت هذه المؤسسات وهمشتها حيث تحولت الى مظهر معظل لمظاهر الدولة المؤسساتية ومن اهم هذه المؤسسات هي مؤسسة القضاء والتشريع التي تحولت الى ذراع من اذرعة السلطة مكبلة بأجندتها. ورغم وجود برلمانات عربية على مرّ الزمن الا انها تحولت الى مساحات فارغة غير قادرة على تمثيل الارادة الشعبية التي اوصلتها الى مركزها فتلاعبت الانظمة بالتمثيل البرلماني الذي تحول من هدف تمثيل المجتمع الى هدف حماية السلطة من الغضب الشعبي عن طريق اشراك ممثلين صوريين غير قادرين على تأسيس حكومة تعكس توجهات المجتمع او مصالحه.
ورفضت السلطة ان تعطي المؤسسات التمثيلية أي قدرة على التحكم بخطوط السياسة العريضة وتحول رئيس الحكومة او الوزير الى ممثل للسلطة العليا وليس للارادة الشعبية. فالسياسة العربية لم تكن المؤسسة هي الحاضنة لها بل هي تدار من قبل شخصيات ملتزمة بعضها مع البعض بعلاقات مشخصنة ومرتبطة بالخط السياسي العريض لمن أتى بها الى السلطة. ورفضت السلطة اعطاء صلاحيات حقيقية رقابية على المؤسسات الحكومية مما ادى الى تهميشها وتبعيتها وانفصالها عن واقع المجتمع ومطالبه. فلم تستطع المجالس التمثيلية ان تكبح جماح السلطة او تحد من فسادها واستئثارها بالقرار النهائي.
ثالثا: كبلت دولة ما بعد الاستعمار العربية اهم مؤسسات الدولة وشخصياتها وهم القضاة والمحامون وتدخلت بمسيرة استقلالهم وعملهم فاستقطبت القضاة وهمشت المحامين مما ادى الى خلل في مساحة كانت لو قدر لها ان تكون مستقلة نزيهة بعيدة عن يد السلطة فلا قوانين وضعية ولا دينية استطاعت ان تكسر القيد بل تحول القانون الى ذراع آخر تستعمله السلطة لتثبيت سطوتها بدلا عن حماية المجتمع من توغل السلطة وتجاوزاتها. ودمجت السلطة في ذاتها شخصية الخصم والحكم مما أدى الى انهيار العدل وتلاشيه. وبينما ظلت شعوب العالم تناضل من اجل الحد من توغل السلطة او الدولة على حساب المجتمع والفرد نجد ان الدولة العربية وضعت الاساس لتكون هي وحدها فوق الاثنين معا مما أدى الى خلل في مفهوم الحكم وممارسته والاتجاه نحو مسيرة السلطة المطلقة غير المقيدة بالقانون او العرف فتقلصت مساحات الحرية والعمل الجماعي الذي لم يجد في القضاء او القاضي او المحامي القدرة على حمايته بل اصبح الهدف تجريم المجتمع وحراكه عند أقرب فرصة بمساعدة مؤسسات الدولة وآلياتها.
رابعا: استحدثت السلطة العربية الحل الامني كحل اول واخير لكل معضلة او حراك فمكنت المؤسسات الامنية على حساب المؤسسات المدنية وافرطت في تمكينها مما ادى الى تثبيت الحكم المعسكر الذي لا يتبلور في فقط مؤسسات عسكرية تسكن الثكنات بل اصبح واقعا ملموسا وحقيقة على الارض فغرزت مفهوم القوة كحل لكل معضلة مهما كانت بسيطة ولو كان مسرحها الشارع والمحلة وجردت المجتمع من اي قوة لتقاوم التوغل المعسكر في حياتها المعيشية. اصبحت القوة واستعراضها سمة ملازمة للحكم العربي تحت شعارات التمكين والامن القومي والذي أتى على حساب الامن الفردي بل اخترقه وجعله حالة مفققدة لمعطيات السلم الاجتماعي.
خامسا: بالاضافة الى عسكرة الدولة اتجهت السلطة الى السيطرة على المساحات الاعلامية والفكرية والتربوية لتضمن بذلك ادارة الوعي العربي وترويضه من خلال الترويج لمروية واحدة تكون هي وحدها الحقيقة المطلقة فصرفت الاموال الباهظة لتشكيل هذا الوعي واختراقه بخطابها الوحيد وقاومت اي محاولة لاحداث ثغرة ولو بسيطة في مساحات الاعلام والفكر تعيد صياغة الوعي الجماعي او تشكك في مرويات السلطة. واحتدمت المعركة بين الاعلام السلطوي والاعلام الجديد مما اضطر السلطة الى سن القوانين والتشريعات ضده ان هو انحاز عن الخط الرسمي او تبنى تفسيرا مغايرا له وجاءت هذه القوانين كاستراتيجية استباقية تضرب بها مساحات الحرية الجديدة التي وفرتها وسائل تقنية اعلامية حديثة. واحتدمت المعركة بين الخطاب الرسمي والآخر الذي بالطبع لا يملك القدرات الاقتصادية المتوفرة للسلطة وذهب ضحية هذه المعركة الكثيرون الذين تصدوا للخطاب الواحد والحقيقة الازلية التي تستعرضها السلطة في محافلها الاعلامية والفكرية حتى اصبحت صفحات الفيس بوك واحرف التويتر اشبه ما تكون برصاص تخافه السلطة وتلاحقه مما يعكس هوس السلطة العربية بهيبتها التي شنتها وسائل الاتصال المفتوحة. فالسلطة العربية تجاهد في سبيل عدم تلاشي هيبتها لانها تعلم ان لحظة سقوط هذه الهيبة ستكون لحظة حاسمة نحو الطريق الى تقويض هيمنتها على المجتمع.
سادسا واخيرا استعانت السلطة العربية بشقيها الجمهوري والملكي بالموروث الثقافي والديني فغازلت هذا الموروث بطريقة انتقائية لاعادة صياغة حقيقتها كحقيقة لها بعد تاريخي شرعي فمن رؤساء الجمهوريات الى ملوك الملكيات نجد الطيقة الحاكمة تسعى الى تثبيت حكمها عن طريق استحضار حالة القائد المؤمن المدافع عن الاسلام وتراث المجتمع واستغلت الدين لتقنع جماهيرها المعزولة عن صنع القرار انها لا زالت تدور في دائرة الاصالة الدينية والهوية كتغطية صريحة لفشلها وازمتها الوجودية مع مجتمعها. وان استساغ بعض هذا الجمهور مثل هذه الاستحضارات الا ان الحقيقة كانت واضحة حيث تطور وعي الجمهور لدرجة اصبح من الصعب تمرير استغلال الموروث الديني كواجهة اعلامية اخرى لواقع الحكم المعسكر الامني. وان كانت هذه السلسلة الطويلة من خصائص دولة ما بعد الاستعمار العربية لا تكفي فنجد انها اتحدت مع عامل مهم خارجي فجميع هذه المنظومات المحلية وجدت نفسها محتضنة من قبل القوى الخارجية ومدعومة من قبلها مما جعلها تنعم باستقرار مزيف أتى على حساب استقرار المجتمع وقدرته على الحد من توغل السلطة والكبح لجماحها المستشرية في مفاصله. وتحت هذه المظلات الثقيلة المتعددة ترعرعت الانتماءات الفئوية من قبلية او إثنية والاستقطابات السياسية وانشطارات المجتمع واستمرت انتهاكات حقوق الانسان والمرأة وتردي مؤسسات المجتمع المدني وكلها عكست حالة ضعف المجتمع وقوة السلطة في مواجهة التأزم التراكمي الذي ورثته المجتمعات خلال فترة تزيد عن نصف قرن. من هنا بدأت مرحلة التغيير التي عرفتها المجتمعات العربية في السنوات القليلة الماضية وسميت تحت مسميات متعددة كالثورة والربيع مرحلة صعبة ومخاض عسير.
وان كانت البداية في الميادين والشوارع الا انها اصطدمت بإرث وعبء ثقيل تغلغل في المؤسسات والممارسة بل حتى في الوعي العربي الجمعي ومن الطبيعي ان يتراجع هذا الحراك او يفشل في مرحلته الاولى الا انه استطاع ان يخطو الخطوة الاولى في طريق صعب به الكثير من المطبات والعثرات.