ان اي حراك سياسي حقوقي يفشل في ان يبتكر شعارا له تختطفه السلطة المضادة له وتصبغ عليه صفة تنزع شرعيته وتجرمه حتى تضمن تلاشيه وتفككه امام جمهور يحاول التعاطي معه ضمن المعلومات المتوفرة لديه. وهذا بالفعل ما يحصل في السعودية، حيث تقاوم السلطة السياسية حراكا ما زال مشتتا يفتقد للاجماع الشعبي ومجزءا الى سلسلة طويلة من الحقوق، استطاع النظام ان يعزلها بعضها عن بعض من اجل تشتيت محاولات جمعها تحت شعار عريض قد يطيح بالنظام ان توفرت له البنية المحتجة القادرة على اختراق حلقات الولاء والارتباط بالنظام.
الجزئية الاولى من هذا الحراك متعلقة بقضايا المرأة الحقوقية التي تحولت الى مطلب نسائي بحت غير مرتبط بسلسلة طويلة من الحقوق المدنية والسياسية، واستطاعت السلطة ان تحجر على هذا الحراك وتزج به في خانة الشأن النسوي المنعزل عن قضايا المجتمع بكافة اطيافه. جزئية ثانية تتعلق بقضية البطالة المتفشية في صفوف الشباب، حيث نجد ان الكثير منهم يتجمع امام ابواب الوزارات مطالبا بعمل ومعتصما من اجل حق انساني وكرامة، تماما كقضية المرأة، ونجد ان اعتصامات الباحثين عن عمل قد عزلت تماما عن قضايا المجتمع وتحولت الى تجمهرات بحثا عن وظيفة دون ربطها بقضية جوهرية، وهي فشل الاقتصاد السعودي تحت سيطرة النظام الحالي في ان يوفر ابسط حق من حقوق الانسان، وهو الاكتفاء الذاتي والتحصين ضد العوز. وتفضل السلطة السياسية متمثلة بجهازها الامني ان يبقى البحث عن الوظيفة مهمة فردية وشخصية، يستجدي صاحبها الحل من خلال تفعيل الواسطة وخطاب التزلف لهذا المسؤول او ذاك، ويرفض النظام مبدأ الحقوق الجماعية ومناصرة الباحثين عن العمل بعضهم لبعض، تماما كما يرفض فكرة التكتل من اجل المطالبة بالحقوق، حيث تفرق الاعتصامات ويعتقل منظموها لينفرط عقد الجماعة وهذا ما يصبو اليه نظام يعتمد على تفكيك المجتمع والمساهمة في تشرذم قدرته على الاتحاد خلف مطالبه المشروعة. فلا شيء يثير الذعر في قلب النظام مثل التجمهر والحشود البشرية التي تفضح اساليب القمع بشكل واضح وصريح، ومن هنا اصرار السياسي المدعوم دينيا على حرمة المظاهرات. ومن نفس مبدأ تجزئة الحقوق يتعامل النظام السعودي مع المناصرين للمعتقلين السياسيين، حيث يفرق تجمعاتهم امام الوزارة المعنية ويعتقل من ينظم مثل هذه التجمعات ويفضل ان يلجأ هؤلاء الى الاساليب المعروفة القديمة تحت مسمى استجداء صاحب القرار برسائل وبيانات وخطابات ترسل عبر وسائل بدائية وبسرية تامة، لتتلاشى الحقوق وتمر السنون وملفات المعتقلين تبقى مغلقة بعيدة عن اي ضجة اعلامية واحراج عالمي او محلي. ومن هنا تأتي حلول النظام لسلسلة طويلة من المشاكل والقضايا العالقة كحلول فردية، فقضايا حقوق المرأة تحل عن طريق مكارم ملكية تقر بتعيين عدد قليل من النساء مستقبلا في مؤسسات الدولة، او فتح باب العمل في المحلات التجارية المتخصصة بملابس المرأة الداخلية. وقضية البطالة تحل عن طريق ايجاد وظائف حقيقية او وهمية لبضعة اشخاص ويفرج عن معتقل واحد ليدخل السجن عشرات من الآخرين، وتبقى هذه الحلول الجزئية سمة من سمات النظام الذي لا يقبل اتحاد المجتمع واجماعه على قضايا مصيرية ابعد من وظيفة او معتقل واحد. وان تجاوز الاحتجاج الافراد لتنخرط فيه مجموعة كبيرة نجد النظام يسلط آلته الاعلامية ليفكك ابجدياته ومطالبه فينهار عليه بصفات تخرجه من حيز المطالبة بالحقوق الى حيز الجريمة والفتنة والتخوين، بل نجده يستدعي تهما مثل تهم تعاطي الخمور وتسويق المخدرات فتصبح بؤر الاحتجاج بؤر جريمة وانحراف وهذا هو الاسلوب المتبع مع احتجاجات القطيف والعوامية، حيث تبقى هذه الاحتجاجات ملتهبة وقادرة على حشد جمهور كبير عكس الاحتجاجات الصغيرة المتفرقة في المدن السعودية الاخرى.
ومؤخرا انتقلت عدوى الاحتجاج الى عرعر، وهي مدينة في المنطقة الشمالية لم تتضح معالمه بعد وسارعت اجهزة الدعاية السعودية لاضفاء صفة الشغب على المناوشات التي حصلت في شوارع المدينة من قبل متن اسمتهم بالمراهقين، وزج الصراع القبلي كإطار من خلال احداث عرعر دون وجود اي منظومة اخرى يستطيع المواطن من خلالها ان يفسر ما يحدث ليلا في كثير من المدن السعودية النائية، التي تسدل عليها السلطة السياسية ستارا عازلا ينفي عنها الحدث وان خرجت اخبار هذا الحدث الى العالم تسارع السلطة الى نعته بأوصاف تنفي عنه صفة الحراك او المطالبة بالحقوق او انعكاسا لواقع مزر ينفجر دوما ويعبر عن نفسه بصدام مع اجهزة الدولة المتعددة والمتفرعة. وعندما تزداد وتيرة الصدام بين اكبر شريحة اجتماعية، وهي شريحة الشباب مع اجهزة الامن والرقابة نستطيع ان نستشرف ملامح المرحلة المقبلة، في بلد تسعى حكومته لنفيه من مسيرة التاريخ وحراك الشعوب، حيث تطمح السلطة السعودية الى اخراج المجتمع السعودي من التاريخ البشري والزج به في تاريخ خارج اطار الزمان والمكان تحت منظومة الخصوصية السعودية، فتنفي عنه القدرة على الاحتجاج وهذا ابعد ما يكون عن الواقع، حيث جاء الاحتجاج مصحوبا بالعنف في المراحل السابقة بسبب انعدام قنوات الحراك السلمي ومنعها منعا باتا، وكلما زاد اصرار النظام السعودي على تحريم الاحتجاج السلمي اقتربت السعودية من مرحلة الصدام العنيف، الذي بدأ يظهر من خلال المناوشات المتفرقة وحوادث الاعتداء على ممثلي السلطة بطريقة عشوائية تجعل من السهولة الزج بها في خانة اعمال الشغب. وعادة تكون مثل هذه الحركات والمواجهات المتفرقة الدليل القاطع على احتقان شعبي عريض من قبل شرائح متفرقة تمنعها السلطة من التجمع والمطالبة بحقوقها المشروعة، فتلجأ الى اعمال متفرقة مشاغبة حسب سرديات النظام، ولكنها بهذه الاعمال تعبر عن رغبة حقيقية في الانخراط بالعمل الجماعي المحظور والمعاقب عليه بشدة من قبل النظام واجهزته الامنية. وان لم تتجاوب السلطة مع التغيرات الديموغرافية والاجتماعية على الساحة السعودية ستجد نفسها منجرفة في بؤرة عنف جديدة تختلف عن المرحلة السابقة، خاصة مرحلة المواجهات مع التيارات الجهادية عندما فعلت السلطة الحلول الامنية. ولكن المواجهة القادمة لن تجعل الحلول الامنية بنفس الفاعلية خاصة وان هي تصدت لشباب اعزل يخرج الى الشوارع دون ان يلجأ الى اعمال التفجير والقتل مطالبا بحقوق تعتبر اليوم من المسلمات والبديهيات، والخطر الذي تواجهه السلطة اليوم ينبثق من اولا: توحيد المطالب المجزأة حالية وجمعها في حزمة واحدة تحت شعار كبير يلتف حوله طيف كبير من المجتمع وفئاته. وثانيا: تصاعد وتيرة الاحتجاجات السلمية والاعتصامات والاضرابات التي تحرج السلطة القائمة على منظومة توفير الامن والامان والرفاه والرخاء. ورغم ان مثل هذه الاعمال السلمية ليست متأصلة في المجتمع الا انه عرفها في عصور سابقة خاصة في مرحلة الخمسينيات من القرن المنصرم واندثرت بعد ان تم تجريمها من قبل النظام، الا ان مصطلحاتها بدأت تجد طريقها الى المخيلة الشعبية وصورها تتناقلها شاشات الاعلام المرئي، خاصة بعد ان اصبحت سمة ملازمة لعام 2011 في المحيط العربي والعالمي. وان كانت الدرر السعودية الرسمية جاهزة لتصف العمل الجماعي بمصطلحات الفتنة والتخريب والجريمة الا انها ستجد نفسها غير قادرة على استيعاب احتجاجات سلمية قادمة ومطالب شعبية مستحقة، فالمجتمع السعودي مجتمع بشري لن يخرجه النظام الاستبدادي من مسيرة الشعوب الحية مهما ضلل اعلامه ومثقفوه الرأي العام عن كونه جزءا لا يتجزأ من سكان هذه الارض وطموحاته لا تختلف عن طموحات جيرانه العرب وغيرهم.