اخطأ من ظن ان الفكر الوحدوي العربي اندثر بعد ان مات جمال عبد الناصر او شنق صدام حسين، لكن قد يتفاجأ البعض عندما تنطلق دعوات الوحدة من العاصمة التي بذلت كل ما في وسعها لتقويض الوحدة العربية التي وصمت بأنها مؤامرة صهيونية تارة وفتنة تغريبية تارة اخرى ومحاولة لشق صف المسلمين تحت دعوات جاهلية قديمة، لكن من الرياض انطلقت دعوة الملك السعودي في اطار مؤتمر مجلس التعاون الخليجي الاخير الى نقل هذه المنظومة من التعاون الى الاتحاد ملوحة بكونفدرالية جديدة درءا للمخاطر الخارجية التي تهدد أمن الانظمة الخليجية وعلى خلفية الربيع العربي، ولا تطمح هذه الوحدة الجديدة الى توسيع اطارها بل هي محصورة في الدول المؤسسة للمجلس، التي تربطها مصالح اقتصادية مشتركة وروابط اجتماعية وشعبية قديمة.
وجاء البيان الختامي لمؤتمر مجلس التعاون الخليجي كالعادة مطعما بالشعارات الخلابة والمصطلحات البراقة، وكأنه موضوع انشائي يقدم للدارسين في علوم اللغة او الادب العربي فلم ينبهر به حتى المعنيون بالشأن الخليجي، سوى ما كتب عن المبادرة في الصحافة المحلية من اطراء ومديح لا يختلف عن اسلوب هذه الصحافة المعتاد. وبعد ان تشبعت هذه الصحافة سابقا بمقالات تدعو الى الوطن اولا نائية بنفسها عن مفاهيم الوحدة نجدها اليوم تنتقل لترويج مفهوم الوحدة الجديدة، خاصة انها انطلقت من الرياض، حيث تطمح هذه الاخيرة لقيادة المنطقة الخليجية لمواجهة مخاطر المرحلة المقبلة التي تنحصر بالمؤامرة الخارجية واستهداف أمن المجموعة الخليجية.
لا يفوت العالم العربي ان محاولات الوحدة السابقة ظلت مرتبطة بانظمة روجت لها في فترات تاريخية وفشلت لاسباب لا مجال لذكرها هنا، فسقطت مشاريع كبيرة وشعارات عريضة ربما يكون الشعار الخليجي الحالي آخرها. ورغم سقوط هذه المشاريع القديمة الا ان روح الوحدة وشعاراتها العاطفية تظل حية وتأبى ان تتلاشى، ولكن نعتقد ان التحولات التي حصلت في العالم العربي مؤخرا تؤصل لوحدة من نوع جديد تتجاوز حدود الجغرافية الموروثة والتي تتعدى المناطق العربية من شمال افريقيا الى الجزيرة العربية.
الوحدة المنبثقة اليوم تختلف عن سابقتها، اذ انها تترسخ باطار شعبي وليس على صعيد الانظمة، التي لم تجتمع في السابق الا على قمع شعوبها وانتهاك حقوقهم. توحدت اليوم الشعوب العربية على خطاب جديد نجد صداه في القاهرة وصنعاء والمنامة والقاهرة وغيرها من العواصم العربية. هو خطاب الحقوق وروح مقاومة الظلم والتعذيب والفساد والاستئثار بالسلطة وحكم الاسر وعلاقات الزبونية ورفض العنف الممارس من قبل اجهزة الامن والتصدي له بالوسائل والآليات السلمية من مظاهرات الى اعتصامات ومقاطعة لمشاريع الانظمة. الخطاب الوحدوي الجديد لا ينغمس بالماضي وامجاده، بل هو خطاب مستقبلي يستشرف المرحلة القادمة حيث يعيش المواطن العربي كغيره من مواطني الشعوب الحرة بعيدا عن ممارسات تعسفية اجبرته على الخضوع لانظمة لا تمثل الا نفسها والقائمين عليها والمنتفعين منها.
والتقت الشعوب العربية مجددا على امجاد تريد بناءها في المستقبل وليس تلك القابعة في كتب التراث القديم، الذي نظر لها طيف كبير من مثقفي مشاريع الوحدة السابقة. ولم يستثن خطاب الوحدة الجديد في الجزيرة العربية ذاتها، حيث يتعاطف الكثيرون من شبابها وفعالياتها مع طروحات الديمقراطية والمساواة والعدالة، ويتألم هؤلاء ليس فقط لمعاناة المصري والتونسي واليمني، بل ايضا نجدهم يطالبون بحقوقهم وينتقدون انظمتهم التي لا تزال تعتبرهم شريحة مدللة مرفهة بعيدة عن المطالبة بحقوق المواطنة والعمل واحترام الحرية الشخصية والتمثيل السياسي الحقيقي بعيدا عن شعارات الابواب المفتوحة ومفاهيم الراعي والرعية.
هذا التحول التاريخي الوحيد والجديد هو ما يخيف الانظمة وهو ما يصنف وكأنه العدو اللدود الذي سيطيح بالامن ويهدد الاستقرار الداخلي وليس مزاعم المؤامرات الخارجية التي تحبكها جهات خارجية كايران او غيرها. وان وجدت وحدة عربية حقيقية ومتبلورة فهي فعلا وحدة المعاناة وطموحات المستقبل، الاولى محت الفروقات وازالت اختلافات الملكيات والجمهوريات حيث اشتركت في اساليب الحكم رغم تعدد المسميات والمصطلحات، والثانية تكرس مفاهيم جديدة لن تتراجع عنها الشعوب العربية بما فيها الخليجية تحت تهديدات اخطار مزعومة لا تروج لها الا انظمة تخاف من المستقبل وقدرته على تغيير مفاهيم الحكم القديمة.
وفي منطقة الخليج بالذات لا نجد الا السعودية والبحرين تروجان للخطر الخارجي كتبرير لمشروع الاتحاد الجديد الخليجي، ففي البحرين وبعد تقرير بسيوني عن احداث المملكة لا تزال القيادة تلوح بالمؤامرة والتهديد الايراني وتشترك في هذا الخطاب مع نظيرتها السعودية حيث تردد القيادة السعودية مثل هذه المقولات في محاولة بائسة لتجاوز ازمتها الحالية ومحنتها مع شعبها. اما في الدول الخليجية الاخرى لم نسمع مثل هذا الخطاب المبتذل، فقطر يبدو انها لا تعيش ازمة داخلية ولا تتهم شريحة كبيرة من مجتمعها بولائها للخارج وكذلك الحال في عمان، حيث شهدت السلطنة حراكا استوعبته القيادة واعترفت بانه حراك يتطلب التجاوب مع مطالب شعبية من اهمها توفير العمل والتصدي للفساد ولم تروج هذه القيادة لفكر المؤامرة او التدخل الخارجي عندما خرجت مظاهرات صحار واصطدمت مع الاجهزة الامنية.
اما الكويت فيظل حراكها غير متهم بالعمالة للخارج ويبقى حراكا شعبيا يطمح الى نقل الامارة الى ديمقراطية حقيقية تكون فيها الحكومة منبثقة من مجلس الامة وليس معينة من قبل الامير، وربما تكون هذه الطموحات هي من سينقل التجربة الكويتية الى افق جديد يكون فريدا في المنطقة الخليجية. ونعتقد ان ما يهدد هذه التجربة هو وحدة نظامية مع الشقيقة الكبرى حيث تنعدم المؤسسات السياسية الحقيقية والمحاسبة وتختفي مفاهيم محاسبة الوزراء والحكومة.
وان اشتركت الكويت والسعودية في استشراء الفساد نجد ان فساد الاولى لا يمر بدون ضجة ومطالب لكشفه وفضحه، بينما في الثانية تعتبر امور الفساد من اسرار الامن القومي لا يفضحها سوى تقارير خارجية تصدر عن منظمات، مثل منظمة الشفافية العالمية وتصمت عنها الصحافة السعودية خاصة اذا كانت من اختصاص الوزارات السيادية المعصومة، ناهيك عن صمت مجلس شورى معين ليس من صلاحياته الا الاستشارات الشكلية التي لا ترتقي الى مستوى الاموال التي تصرف عليه وعلى اعضائه.
يبدو ان وحدة الملك عبدالله المقترحة لا تخدم طموحات الشعوب الخليجية بل تخدم مصالح النظام السعودي الطامح الى حشد خليجي خلف ازماته الحالية وحربة غير المعلنة مع النظام الايراني، حيث يتصارع الاثنان على مناطق النفوذ والهيمنة في العالم العربي واستدراج الدول الخليجية الاخرى خلف هذا الصراع عن طريق الترويج والتلويح بالخطر الخارجي لن يجر هذه الدول الصغيرة الا الى المزيد من استنزاف دخلها وتهديد امنها والاحرى بها ان تنأى بنفسها عن المشاريع السعودية العريضة وتركز اهتمامها على تطوير بنيتها السياسية والاستجابة لمطالب شعوبها، بدل ان تغرق في تفاصيل الصراع الايراني ـ السعودي الذي قد يجر المنطقة الى صراعات لا تعرف خاتمتها ولا يمكن التنبؤ بعواقبها.
اما القيادة السعودية غير المعترف بمطالب الاصلاح السياسي فلن ينفعها تأجيل هذا الملف تحت ذريعة الخطر الايراني والتلويج به عند كل ازمة سياسية، فهذا اسلوب قديم عراه الخطاب الوحدوي العربي الملتف على الحقوق السياسية والذي انبثق بشدة خلال الربيع العربي ووصل صداه الى السعودية نفسها. وعليها ان تعترف ان شعبها ليس بالمغفل او القاصر الذي تقنعه شعارات العدو الخارجي والذي من اجله يتم تأجيل ملفات الاصلاح السياسي ولا يمكنها ان تستمر في اختزال المطالب الاصلاحية بالمؤامرة الخارجية الى اجل غير مسمى.
وحل المشاكل العالقة من اعتقالات وانتهاكات لابسط حقوق المواطن هو افضل من اتحاد ممالك ومشيخات لا تصمد امام الشعوب ورغبتها في عيش كريم بعيدا عن شعارات فارغة تنبثق تحت وطأة ازمات سياسية حقيقية. وان قدر للسعودية ان تلعب دورا وحدويا فنعتبرها اليوم بشكلها الحالي ونظامها السياسي غير قادرة على تلبية هذا الطموح الكبير في محيطها الخليجي، ناهيك عن المحيط العربي الواسع خاصة بعد توحد العرب على خطاب المطالب الحقوقية والسياسية.
فالوحدة الحقيقية ليست فقط انعكاسا لاحصائيات النفط والميزانية، بل هي مثال متكامل تجتمع فيه القوة الاقتصادية مع معطيات الحكم الراشد المنبثق من الارادة الشعبية. فالحجم والجغرافيا المترامية الاطراف لن يكونا يوما حافزا لوحدة حقيقية طويلة الامد بل يظلان مشروع هيمنة لا يلقى تعاطفا خاصة في دول الجوار الصغيرة، وان كان لها من الموارد الاقتصادية ما يفوق السعودية.
فقط عندما تنتقل السعودية الى هذه المرحلة تستطيع بعدها ان تطلق دعوات الاتحاد التي ستجد حينها من يستجيب لها وتكون لها ديمومة حقيقية تنتفع منها شعوب المنطقة الخليجية بكافة اطيافها واتجاهاتها، وتجد المؤسسة الحقيقية الكفيلة كبرلمان خليجي مشترك وبنك مركزي متفق عليه وعملة موحدة تسهل انتقال الاموال بين الدول المختلفة وتنفتح على العالم العربي الآخر، ولكن بظل الممانعة السعودية الحالية تجاه ملفات الاصلاح السياسي تتأخر احلام المنطقة بتفعيل الخطاب الوحدوي الجديد وتظل السعودية ترتجف تحت وطأته لا تجد ما يخفف كوابيسها سوى شعارات اتحاد ربما ستظل حبرا على الورق وان نجحت في دغدغة مشاعر البعض.