منذ اعلان وفاة ولي العهد السعودي كثرت التكهنات حول مصير المنصب الشاغر وكلها أتت من خارج المملكة بعضها ينذر بخلافات قادمة حول اختيار الشخص المناسب وبعضها يطمئن الجمهور المنتظر بسلاسة عملية الاختيار وفق قرارات تصدر من الملك وهيئة البيعة. أما في الداخل السعودي فينعدم النقاش العلني ويختبئ في المجالس الخاصة ولا يجرؤ أحد ان يطرح الموضوع للبحث والتخمين ويظل الشارع يترقب الاعلان عن اسماء جديدة وكأن الأمر لا يعنيه خاصة ان هذا الشارع يفتقد لأي مؤسسة او تمثيل يتمكن من خلالها طرح وجهة نظره.
فالمجتمع بكافة اطيافه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية معزول عن موضوع الخلافة والملك. بعد ان نجح النظام السعودي في تحييد المجتمع عن أهم قضية تواجه الدولة والأمة وساعده بذلك عاملان: أولهما إرث ديني قديم يستحضره النظام ليسدل ستاراً دينياً شرعياً على ممارسات سياسية قائمة على الاستئثار بالسلطة والاقتصاد وتحييد المجتمع بل تغييبه كلياً عن الحكم وشخصياته. ويعتمد هذا الارث الديني على نصوص متوارثة ابدع في صياغتها علماء قدامى كرسوا مبدأ الفصل بين البيعة الخاصة والتي يستأثر بها مجموعة قليلة من الشخصيات والبيعة العامة والتي تأتي كغطاء يضفي على البيعة شرعية وهمية بعد الحدث والاختيار.
يعتقد النظام السعودي انه المكرس والمطبق لهذا الفصل القديم بين الخاص والعام فهو يذكر مجتمعه دوماً انه الدولة السلفية السنية المطبقة لشرع الله والناطقين باسمه من القدامى والجدد. لذلك لا يجب ان نحكم على النظام السعودي من منطلق مفاهيم جديدة خارجة عن اطار خطابه الديني وشرعيته التي يعتقد انه يستمدها من تطبيق هذا الارث ولكن ان حاكمنا النظام السعودي من مبدأ منطلقاته الدينية المزعومة سنجد ثغرة كبيرة وخلطا للمفاهيم والخطوط العريضة التي ناقشها علماء الاسلام في عصور سابقة.
وعندما أقر علماء كبار من أمثال الغزالي وابن تيمية بأن البيعة من شؤون الأمة الكبيرة وحصروا أمرها في ما اصطلح على تسميته بأهل الشوكة اصحاب المال والسلاح هل كان هؤلاء يتصورون انها ستتحول الى مجموعة قليلة من الامراء المنحدرين من سلالة شخص واحد فيتقلص عددهم الى 35 شخصية. وهل تخيل هؤلاء ان طبقة العلماء ستكون محيدة تماماً وتتحول الى شريحة قائمة على ادارة الطقوس الدينية واضفاء رمزية دينية على نظام الحكم المطلق. وان تم تحييد هؤلاء فليس من المعقول انهم تناسوا علمهم خاصة وانهم يعتبرون انفسهم مرجعيات تعتمد على ارث الأولين فكيف ينسى هؤلاء شروط الامامة التي فصلها الماوردي في احكامه السلطانية ومنها العدالة والعلم وسلامة الحواس من السمع والبصر واللسان وسلامة الاعضاء من نقص يمنع عن الحركة وسرعة النهوض والرأي السليم الصائب والشجاعة والنجدة.
لقد اندثر هذا الارث تحت وطأة عامل ثاني وهو النفط الذي استطاع ان يحيد ليس فقط علماء المسلمين بل غيرهم من شرائح المجتمع والذي اصبح ينظر لهم كعوام هامشية تتلقى المكرمات او الفتات وتشكر خالقها على النعمة والامن لا تمارس حقها في المساءلة ولا تطلب شفافية تفضح بعثرة الثروة الاقتصادية بعد الاستئثار بها ونهبها من خزينة الدولة حيث يختلط المال العام والخاص وتوزع الحصة الكبيرة منها على سليلة المؤسس من خلال معاشات شهرية للعامل منهم في مؤسسات الدولة والعاطل ناهيك عن استغلال المناصب للسيطرة على عقود تجارية وتنموية وصفقات اسلحة واعمار مما يضعهم في مكانة يستطيعون بها ان يكسبوا شعبية جديدة من خلال توزيع بعض هذه الثروة في اطار مؤسسات خيرية خاصة يعتقد المجتمع انها هبطت من خزينة خاصة وليس مما اخذ واستولي عليه من الخزينة العامة. وبذلك يخلقون محورين لكسب الشعبية: الأول من خلال مؤسسات الدولة والثاني من خلال مؤسسات ترتبط شخصياً بهذا الأمير او غيره وينتج عن عملية الخلط هذه تمكين حلقات ولاء خاصة تتجاوز الدولة ومؤسساتها المعروفة.
لقد تضافر الإرث الديني وعامل النفط ليخلقا وضعاً فريداً في السعودية ربما لم تعرفه المجتمعات الاسلامية حتى لحظة انحطاطها واختراقها من الخارج عن طريق الغزو والاحتلال حيث ظلت الامم السابقة تبحث عن مخرج من ازمة القيادة ان كانت مهزومة وترجع الى نصوصها بحثاً عن حل لمأزقها.
ولكننا اليوم في السعودية نعتقد ان المبدأ المطبق هو استمرارية الصمت على الممارسات السياسية تحت ذريعة الخوف من الفتنة وتقويض الأمن حتى تبنى المجتمع مبدأ فرضته السلطة السياسية يقوم على تفعيل ان من أغلق فمه كان آمناً وان استمرارية الحياة ورغد العيش والسلامة مرهونة بالسلبية وموقع المتفرج على مسرحية دراما البيعة الخاصة. وما أن تخرج هذه إلى العلن تصبح عامة تتطلب الاسراع في تقديمها كرمز للقبول باختيار الحلقة السرية وقراراتها بعد ان تحسم أمر توزيع المناصب والشراكة فيما بينها. وتحولت الحلقة السرية الى مجموعة أهل الاختيار بامتياز ليس لان فيها من الصفات والأهلية التي تخولها ان تلعب هذا الدور بل لأنها من سلالة تتحول يوماً بعد يوم الى مجموعة مقدسة خارجة عن اطار النقد او التشكيك او علامات الاستفهام. وقد وطدت الحلقة قدسيتها بسلسلة من القوانين التي تحاكم من يتجرأ على انتقادها او التشكيك في حكمتها. وأضفت هذه القدسية على من يساندها من الطبقة الدينية حتى تحول هؤلاء بدورهم الى مرجعيات تعتمد على قربها من السلطة وليس قربها من علمها الشرعي واخلاصها في التعاطي مع هذا العلم لتثبيت المصلحة العامة ومؤخراً تحولت حتى الشخصيات التي تلعب دوراً استشارياً الى مقدسات لا تقبل التساؤلات في قراراتها وأعمالها الاستشارية بسبب قربها من مفاصل الدولة ورؤوسها الكبيرة فنقدها يعني بالضرورة التشكيك في حكمة هذه الرؤوس في اختيارها لشخصيات من العوام تكون حلقة وصل بين الراعي والرعية.
لقد اتسعت حلقات المقدس في السعودية من الجغرافيا الى السياسة حتى ضاقت السبل وانعدمت مساحات النقاش والحوار والرأي في أهم الموضوعات المتعلقة بقيادة الأمة وتكرس مفهوم الخاصة بل رفع هذا المفهوم الى درجات عالية من القدسية وتهاوى مفهوم العامة الى درجة الرعاع الذين لا يستحقون تمثيلاً حقيقياً في مؤسسة منتخبة او مجلس استشاري حقيقي يحتضن التعددية السياسية والفكرية والمصالح الاقتصادية. وفي المرحلة الحالية حيث تبدو السلطة منهكة بسبب تقدم العمر والمخاطر السياسية الاقليمية نعتقد انها تحتاج اكثر من اي وقت مضى ان تتنازل عن جزء من قدسيتها وسريتها لتشرك المجتمع في قرارات مصيرية ولن يكون هذا التنازل رمزاً لضعف او خوف بل سيكون من مبدأ الحفاظ على الدولة والوطن بعد زوال الشخصيات المترقب خلال الفترة المقبلة. وعادة ما يكون التغيير في زمن الطفرة والاستقرار احسن بكثير من ذلك الذي يفرض تحت ضغط عنيف او مواجهة دامية حيث ينذر بخسارة كل شيء.
في مثل هذه الحالة تقع المسؤولية على عاتق اعلى رأس في السلطة السياسية لكن يبدو ان هذا من غير المتوقع خاصة وان الوضع الصحي للملك ربما لا يخوله ان يتخذ قرارات مصيرية تنقل الحكم السعودي الى مرحلة جديدة خاصة وان هناك الكثير من الذين ينتظرون أدوارهم لتبوؤ مناصب هامة قبل ان تفوتهم الفرصة ويعملون جاهدين لانتزاع حقوق يعتبرونها مقدسة غير قابلة للجدل او التجاوز.
وقد ولدت هذه الحالة الفريدة من رحم تعددية المطالبين بنصيبهم في الحكم حتى أصبحت المناصب تتحدث وتتشعب في محاولة لاستيعاب شريحة كبيرة فاق عددها المعقول فمن نائب اول الى ثان وثالث تم توزيع الحصص السياسية وما يأتي معها من كسب اقتصادي لاعداد هائلة من الكبار والصغار. وتضخمت الدولة ومرافقها ومناصبها ليس لان ادارة الشأن العام تتطلب مثل هذا الكم الهائل بل لان مبدأ الشراكة تغلب على مبدأ تقنين المناصب وترشيدها.
وطالما ان الوضع الاقتصادي والموارد النفطية قابلة للقسمة طالما ظل تشعب ادارة الدولة ممكناً ورغم ان هذا يحدث بسبب عدم عزل الحلقة السرية او احد اشخاصها الا انه لا يخدم المصلحة الوطنية وترشيد القرارات السياسية فهذه المصلحة رهينة حلقة صغيرة رغم تعدادها تعتبر نفسها وحدها نخبة سياسية لا تستقيم الامور ولا يستتب الامن الا بوجودها فهي مفتاح الامان والرخاء والاستقرار وكأن المجتمع والوطن هامش متخلف عقلياً وقاصر على تدبير شؤونه بل هو اسوأ من ذلك بكثير وان قدر لهذا المجتمع اي نوع من التمكين السياسي فسينجر خلف عصبيات قبلية وتيارات متطرفة وحالة فوضى حسب سرديات النظام السعودي والذي نجح في جعلها ككتاب مقدس يتداوله الجميع دون التساؤل عن مدى مصداقيته وقربه من وصف الحالة العامة في البلاد.
وصمت المجتمع الحالي ما هو الا الدليل القاطع على مدى استيعاب هذا المجتمع لسرديات تهمشه وتنتقص من قدراته وطاقاته فيراقب المجتمع تحليلات الخارج عن اسرار البيعة الخاصة دون ان يفصح عن خباياه وآرائه مستجدياً الامن بعد ان اغلق فمه.