يخضع الرأي العام السعودي لعملية تبسيط واختزال تمررها السلطة لتتجاوز اسئلة ملحة لا تستطيع الاجابة عنها حاليا فتفضل ان يستمر الخطاب الذي يربط كل مشكلة اجتماعية او اقتصادية بالدين وخاصة ما يسمى تيار التطرف فيعتبر هذا المسؤول الاول والاخير عن سلسلة من الآفات والمشاكل المتفاقمة.
مؤخرا تعرض احد الموظفين في نظام ساهر المستحدث من اجل مراقبة حركة السير وتحديد السرعة على طرقات الموت حيث يموت الآلاف سنويا بسبب السرعة المتهورة ويفرض غرامات مالية باهظة على المخالفين الى جريمة بشعة انتهت بوفاته وحرق سيارة المراقبة وبعدها طعن آخر في اقل من اسبوع فتعالت الاصوات متهمة آراء لبعض العلماء تدين هذا الاستحداث التقني الجديد وصدرت فتاوى ضده فاعتقد البعض ان هذه الفتاوى هي المسؤولة عن الجريمة ولم يفكر احدهم انه ربما هناك اسباب اخرى تجعل المواطن يلجأ الى العنف ضد موظف بسيط صغير ارتبط عمله بمؤسسات تجني الارباح الطائلة وتجاهد في تقليص الخيارات الاخرى المتاحة لتحديد السرعة والحد من الوفيات على الطرق. وفي نفس الوقت تكثر حوادث الاعتداء على موظفي هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر منها عراك بالايدي ينتهي في بعض الاحيان الى عنف مباشر متبادل بين اعضائها الذين يجولون في الشوارع والمواطنين. وفي الحالتين يعتبر نظام ساهر ومطاوعة الهيئة اجهزة مراقبة تفرضها الدولة زاعمة حفاظها على سلامة المواطنين من سرعة القيادة في الحالة الاولى وسلامة اخلاقهم في الحالة الثانية وان دلت هذه الاعتداءات المتكررة على شيء فهي تدل على: اولا تململ من مبدأ المراقبة المستمرة وخضوع المجتمع الى انظمة قديمة او جديدة لمزيد من اساليب التجسس والمراقبة التي تطال ليس فقط الحياة العامة بل الخاصة وثانيا جنوح البعض الى عنف موجه ضد اجهزة الدولة الرقابية دليل على انعدام الثقة بهذه الاجهزة ومحاولة تقويضها بأساليب اجرامية فردية ليس لها علاقة مباشرة بالدين او الفتاوى بل هي ترتبط بحالة تذمر شاملة ورغبة في التملص من رقابة الدولة المتزايدة وقبضتها المحكمة على المجتمع. لقد اتسعت مساحات التقييد على المجتمع وانعدمت المساحات المستقلة الحرة فيضطر البعض الى ارتكاب جريمة في سبيل التملص من المراقبة والامتثال لاوامرها وثالثا ان دلت مثل هذه الاعمال على شيء فهي تدل على تقلص هيبة الدولة وموظفيها خاصة اولئك الذين يسهرون على حماية امنها وليس حماية المواطنين عندما يقتنع طيف كبير من المجتمع ان الدولة لا تمثل مصالحة ولا تعبر عن طموحاته بل هي تخذله عندما لا تتجاوب مع هذه الطموحات يتحول الاحباط الى عمليات اجرامية بحق اشخاص لم يصنعوا نظام المراقبة بل هم منفذون له يجعلونه واقعا على الارض. فيعتدون على المعادلة السهلة عندما لا يستطيعون مواجهة اليد القوية خلف انظمة المراقبة والتي تستفيد منها لتثبيت امنها على حساب امنه. على النظام السعودي ان يقتنع ان هيبته لا تتحقق بمزيد من المراقبة والتضييق والقمع المباشر وغير المباشر او بفرض مثل هذه الهيبة عن طريق استحداث اجهزة متقدمة او الاعتماد على مؤسسات دينية قديمة قلص دورها في مراقبة المواطنين والتضييق عليهم وجردها من معاني الحسبة حتى اصبحت اداة اخرى لفرض الرقابة على المجتمع وليس القيادة السياسية. وكل من يردد ان مثل هذه الاعمال الاجرامية المتفردة مردها الدين يتجاهل الدور المحوري لعوامل اخرى تكون اكثر اقناعا كخلفية لتحليل ظاهرة العنف التي تشهدها الساحة السعودية خاصة تجاه اجهزة الدولة والقائمين عليها. وعندما يتجرأ الافراد على ارتكاب جريمة بحق القائمين على هذه الاجهزة ربما لا يكون المشجع على مثل هذه الاعمال صدور فتوى هنا وهناك بل واقع سياسي مفضوح من اهم خصائصه التضييق والتقييد والمراقبة وقبل ان يأتمر الانسان برأي ديني يجب ان نتعرف على هذا الواقع والذي يجعله يقدم على عمل اجرامي بوجود فتوى ضد ساهر مثلا او عدم وجودها. وان دلت الجرائم البشعة التي ترتكب بحق الموظف البسيط على شيء فهي تدل على تآكل هيبة الدولة والتي تبدأ عادة في الشارع قبل ان تصل الى مستويات عالية من الصعب الوصول اليها فيدفع الموظف البسيط ثمنا باهظا لحالة سياسية عامة تتجاوزه وتتجاوز دوره المحدود. اعمال الشغب والاستهتار بمؤسسات الدولة من قبل مجموعات تضيق بأنظمة المراقبة تعكس هذا الواقع بعيدا عن العامل الديني.
اما في المجال الاجتماعي فيحلو للبعض ان يرجعوا كل مشكلة او سلوك منحرف الى حالة التضييق الديني والحجر على الحريات فمنهم من يعتبر ظاهرة المثلية المنتشرة في السعودية وكأنها نتيجة حتمية لعدم الاختلاط بين الجنسين متناسين ان هذه الظاهرة قديمة كقدم المجتمعات البشرية من الاغريق وعصرهم الى اليوم حيث لم نعرف مجتمعا بشريا انعدمت فيه هذه الظاهرة وهي تنتشر في اكثر المجتمعات اختلاطا حيث لا قيود ولا قوانين تقيد فرص الالتقاء بين الرجل والمرأة لكن بعضهم يختار طوعا سلوك هذا الدرب لعوامل لا علاقة لها بتوفر فرص الالتقاء وانما لعوامل اخرى نفسية او اجتماعية مرتبطة بالبيئة والتربية والخيارات النفسية والشخصية. فهل يا ترى ستنقرض الظاهرة وتتلاشى او تنعدم عندما يرفع الحجر على فرص اللقاء بين الشباب والفتيات؟ لو كان هذا هو الحل لانقرضت المثلية في الغرب منذ زمن حيث رفعت القيود على الاختلاط منذ زمن بعيد وتوفرت فرص اللقاء المفتوح في اكثر من حيز تربوي واجتماعي. لكن عندما نجعل الدين اساس كل مشكلة وتفسير لكل معضلة نتهرب من الاجابة على اسئلة تتطلب اكثر حنكة وتأصيلا يفضح المستور ويعري اسبابا ربما ليس المجال مفتوحا لطرحها حاليا.
وهذا ينطبق على معضلة البطالة المتفشية في الوسط النسائي حيث لا تزال المرأة تشارك بنسبة ضئيلة في الاقتصاد ويحلو للبعض ان يعزي ذلك الى استمرارية الرفض الديني لقيادتها للسيارة ويعتقد وهما انها ستدخل سوق العمل بقوة لحظة رفع الحظر وهزيمة التيار الديني المعارض ويستنتج البعض ان المعارضة الدينية هي السبب الرئيسي خلف بطالة المرأة متناسين الاسباب الاقتصادية وفشل النظام في تطوير اقتصاد لا يعتمد الا على اليد العاملة الاجنبية الرخيصة ويفضل بقاء نسبة عالية من الشباب والشابات خارج سوق العمل تعيش على وهم كبير وحالة انتظار تطول الى سنوات دون ان يجد وظيفة تناسب مؤهلاته وطموحاته. كان النظام في السابق يستنجد بمقولات عدم وجود المؤهلات مما يضطره الى استقدام ملايين من اليد العاملة ولكن حتى بعد اكثر من نصف قرن على تمويل التربية والتعليم والصرف على بعثات للخارج ظل استقدام اليد العاملة الاجنبية يتزايد سنة بعد سنة دون اي مشروع لتقنين هذا الاستيراد لاسباب سياسية واقتصادية بحتة.
فالدين لا يفسر البطالة ولا يوفر الحل. واستنجد اصحاب هذا الرأي بمعارضة التيار الديني لتوظيف النساء على صناديق الحاسوب او في محلات بيع الملابس الداخلية متناسين ان اكثر العاطلات عن العمل اليوم هن من حملة الشهادات وخريجات الجامعات وان استوعبت مثل هذه الوظائف بعض اليد العاملة النسائية الا انها لن تستوعب هذه الشريحة المتعلمة وتناسى هؤلاء ان المعضلة الرئيسية تدور حول طبيعة الاقتصاد وليس فتوى هنا او هناك فالدولة استطاعت ان تتجاوز الكثير من الفتاوى ان كانت مصلحتها السياسية تتطلب ذلك وتتمسك ببعض الفتاوى التي تخدم اهدافها السياسية فقط ظلت هذه الانتقائية سمة ملازمة لنظام يحاول جاهدا اقناع جمهوره والعالم بشرعية دينية كغطاء لممارسات سياسية ليس لها علاقة بالدين واهله وانما يستحضر الدين دوما لتمييع قضايا اكبر بكثير من البطالة والسياقة من اهمها الرفض المطلق لمطالب اصلاحية سياسية في مضمونها بالدرجة الاولى.
خذ مثلا شعار دستورنا القرآن الذي اصبح يتردد على لسان القيادة كلما اظهرت مبادرات تدعو الى كتابة دستور لنظام الحكم او دعوات تطالب بالمشاركة السياسية فتختبئ القيادة خلف الشعار الكبير لتهرب من مواجهة الحراك الشعبي فتستجدي قدسية القرآن لتخرس الاصوات المنادية بصياغة نظام جديد يقنن الاستفراد بالقرار ويشرك الشعب في صنعه. وتستحضر القيادة الدين عندما تواجه سجناء الرأي فتختبئ خلف اتهامات باطلة كاثارة الفتنة وتأليب الرأي العام والخروج على ولي الامر وكلها مصطلحات تضمن استمرارية الاعتقالات والانتهاكات لحرية الاشخاص تحت غطاء ديني لا يخدم الا مصلحتها في عملية تضليل للرأي العام تحت مظلة قدسية الخطاب الديني.
لقد تحول الدين في السعودية الى شماعة يعلق عليها الكثيرون بدأ بالسلطة ومحللوها سلسلة طويلة من الآفات ويحاربون به خصومهم حتى تحول الى ساحة مطاطية لم تعد تتحمل ما لا يحتمل. فعند كل معضلة او مشكلة من البطالة والجريمة مرورا بالارهاب يقفز الكثيرون على منطق التحليل واستشراف الحلول الى الدين متناسين ان هذا الدين لا يمكن ان يكون خلف كل المشاكل وان كان حتى هذه اللحظة وسيلة سهلة لتمييع القضايا والهروب من مواجهة الحقيقة. ففي بلد تمأسس فيه الدين وفقد استقلاليته نجده قد فقد قدرته على التطور ايضا ليواكب مسيرة المجتمع وارهاصات التغيرات الاجتماعية والسياسية وظل يدور في حلقة جامدة مغلقة مرتبطة بالقرار السياسي مما جعله ينأى عن قضايا مصيرية تتعلق بعلاقة الحاكم والمحكوم والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية ويكرس جهده فقط في التنظير لمسائل جانبية فرعية منها ما يتعلق بقيادة السيارة وعمل الكاشيرات الى ما هنالك من قضايا اصبحت تحت ظل الاستبداد مسائل محورية تجاوزتها الشعوب العربية والاسلامية. وان ظل البعض يعتقد ان كل مشكلة في السعودية يقف خلفها رجل دين فهو يهرب من مواجهة واقعه والذي حتى هذه اللحظة هو مرهون بارادة سياسية ترفض ان تعترف بفشلها. ويجب ان نعترف بأمانة فكرية وموضوعية علمية ان ليس كل مشكلة من الدين وليس كل فضيلة من النظام.