مرت العلاقة السعودية الايرانية منذ عام 1979 بثلاث مراحل: الاولى المواجهة العلنية في الثمانينيات ومن ثم مرحلة انفراج قصير المدى في التسعينيات ومنتهية الى حرب باردة وصراع على النفوذ بعد الاحتلال الامريكي للعراق.
من خصائص الحرب الباردة انها دوماً تكون قائمة على حالة تأهب ومواجهة تصل الى ذروتها ومن ثم تعود تخمد ولكنها تتجدد في لحظات متقطعة وتبدو وكأنها ستنفجر وتتطور الى مواجهة علنية في اي لحظة. فمن ملف ايران النووي الى قضية اغتيال السفير السعودي نجد ان الحرب الباردة تسخن وتحتد وربما تنفرج وتتلاشى فيضطر كل جانب الى التهدئة والتعايش مع الآخر ولو لفترة قصيرة تعود بعدها الصراعات لتظهر وتتأزم من جديد. ما يعقد هذه الحرب الباردة هو وجود اطراف اخرى من مصلحتها تسخين الحرب وأهمها اسرائيل حيث ان مصلحتها ترتبط بهزيمة النفوذ الايراني خاصة في لبنان حيث تعتقد مثل هذه الهزيمة ستلغي بالضرورة عدوها اللدود المتمثل بحزب الله وستقطع عنه الدعم المالي والمعنوي ولكن اسرائيل حتى هذه اللحظة تتردد في اعلان موقف واضح وصريح من تبعيات سقوط نظام الاسد في سورية حيث ساد مبدأ اللاحرب واللاسلم معها لمدة طويلة والطرف الآخر هو الولايات المتحدة والتي تتعامل مع الملفات النووية في منطقة الشرق الاوسط بازدواجية واضحة وصريحة. فهي تصمت على مشاريع حليفتها في المنطقة وتقود حملة دولية لتحجيم قدرة ايران على تطوير السلاح النووي مما يجعل محاولاتها الحالية لفرض عقوبات جديدة على ايران وعزل نظامها تصطدم مع مصالح دول اخرى منها روسيا والصين.
وفي عالم متعدد الاقطاب دولياً لا نعتقد ان ضربة موجعة وسريعة لايران ستكون الحل النهائي رغم ان ذاكرة ضرب المنشآت العراقية من قبل اسرائيل لا تزال تدغدغ قلوب جنرالاتها الا ان الوضع في المنطقة اليوم قد تغير كثيرا عما كان عليه في السابق وتخطئ السعودية ان هي اعتقدت ان مثل هذه الضربة الخاطفة ستكون بمثابة تحجيم المارد الايراني وسيكون المتضرر الاول والاخير منطقة الخليج العربي حيث يبدو ان هذه المنطقة تحاول قدر المستطاع تجنب تبعات ضرب المفاعل النووي الايراني ولن تجلب مثل هذه الضربة الهدف الرئيسي المتمثل برغبة السعودية في هزيمة ايران والخروج من الازمة كمتحكم اول واخير في مسار المنطقة العربية دون منازع. وان كان لنا عبرة في الحرب الباردة الغربية مع الاتحاد السوفييتي سابقا يجب علينا ان نذكر ان انتهاء هذه الحرب مع سقوط جدار برلين لم يؤدِ الى هيمنة غربية الا في مناطق اوروبا الشرقية وبعد سنوات قليلة خرجت روسيا والتحقت بها الصين لتنازعا الغرب على مناطق النفوذ في العالم من اسيا الى افريقيا. لذلك نعتقد ان تسخين الحروب الباردة لا يؤدي الى نتيجة ملموسة ينتفع منها الطرف المنتصر فالنصر في مثل هذه الحالات يكون لحظة قصيرة تعود بعدها اعادة صياغة التحالفات بطريقة تنقص من نشوة الانتصار الآنية.
وان كانت السعودية اليوم تتصدر مشروع تحجيم ايران الا اننا لا نلمس حماساً مماثلاً في دول الخليج الاخرى رغم بعض الاصوات هنا وهناك التي تحاول السعودية ان تجندها خلف رغبتها الخفية في دفع عجلة الامور حتى تنتهي المسألة بضربة خاطفة لايران. ستكون الكويت المتضرر الاول حيث يمكن اعتبار هذه الامارة الصغيرة الاكثر قربا من النفوذ الايراني والذي امتد الى العراق وليس من مصلحتها اقتراب الحرب الى حدودها. وتفضل الامارات التزام حالة الصمت على جزرها المحتلة على حرب مفتوحة مع دولة مقابلة فتقوض اقتصادها ومصالح بنوكها والتي كانت خلال العقود السابقة نافذة تجارية انتفعت منها. اما دولة قطر فهي الاخرى تتبنى خطاب التهدئة نتلمس ذلك من خلال ما صرح به رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري ملتزما بالعلاقات الجديدة رغم عدم الاتفاق السياسي. وقال حمد بن جاسم ان اي شيء يحدث في المنطقة سيضر قطر بشكل مباشر وربما يعتقد ان الوجود العسكري الامريكي صمام امان في المرحلة الحالية ومما يساعد قطر في تبني خطاب التهدئة ان سياستها لا تقوم على مبادئ طائفية وعلاقاتها الخارجية ليست مبنية على نبش الملفات الدينية الملتهبة مما جعلها اكثر براغماتية من الشقيقة الكبرى التي تعتبر نفسها حامية للسنة واهلها وتسبغ الصبغة الدينية على علاقاتها مع ايران. كذلك لا تخاف قطر من مجموعات شعبية محلية تشكك في ولائها وتتهمها بالتبعية لايران تماما كما يحصل في السعودية. لذلك من مصلحة قطر ان لا تدخل المنطقة الخليجية في صراع لا تعرف نتيجته. اما سلطنة عمان حتى هذه اللحظة تظل تلتزم الصمت ولا تقرع طبول الحرب حيث ان لها من المشاكل الداخلية المتعلقة بالبطالة والامور المعيشية ما يجعلها تنأى بنفسها عن صراع لا يخدم مصلحتها القومية. وليس عندها ايضا مشكلة مع شيعتها حيث استوعبتهم منذ زمن طويل ولا تتهمهم بالولاء للخارج. كالسعودية تظل البحرين الدولة الوحيدة في الخليج التي تعتقد ان المواجهة مع ايران ستنتشلها من مأزقها الحالي المستعصي وتعيد الامور الى نصابها ما قبل ثورة 14 فبراير الا انها تعيش الوهم كجارتها السعودية حيث كلتاهما تربطان اي حراك شعبي بايران ومؤامراتها على البلدين من منطلق الهروب الآني من مواجهة حلول جذرية للنظام السياسي وقدرته على استيعاب مطالب الاكثرية في البحرين والاقلية في السعودية. لذلك استهلكت كل من البحرين والسعودية منظومة الخطر الايراني للتعاطي مع مشاكل سياسية داخلية ملحة ولن تكون الضربة الخاطفة لايران ومفاعلها النووي مفتاح الحل لهذه المشاكل الداخلية.
خوض حرب طويلة مع ايران غير معروفة العواقب سيجر المنطقة الى المجهول وان كانت السعودية تطمح لقيادة المنطقة فهذا لا يعتمد على هزيمة سريعة لايران بل يظل مربوطا بتغيير سياسي داخلي يتجاوز الاصلاحات السياسية المزعومة والتي تأتي في معظمها شكلية قاصرة على احداث نقلة نوعية في طريقة الحكم ومؤسساتها المنعدمة حاليا. ان اي نظام يبني شرعيته على مواجهة عدو خارجي حقيقي او وهمي يفشل في تثبيت دعائمه التي تتجاوز مرحلة الصراع العسكري بل يكون في صدد حفر قبره بيديه وان قدر لبلد كالسعودية ان يلعب دورا اقليميا او عالميا فلن يتحقق ذلك الا بشروط مهمة اولها بناء نظام سياسي داخلي يتفوق على غيره في محيطه من حيث استقراره والتحامه مع شعبه وازدهار مجتمعه فيكون نمطا مشرفا تتطلع اليه الشعوب الاخرى تماما كما فعلت تركيا عندما قدمت نموذجا حيا للنمو الاقتصادي واتجهت نحو تركيبة ديمقراطية في منطقة لم تعرف حتى هذه اللحظة الا تقهقر اقتصادياتها وتفرد بالسلطة وقمع حكومات اسرية مدعومة باجهزة استخباراتية وميليشيات عسكرية. وثانيها دعم سياسة خارجية وعلاقات دولية لا تستحضر خطاب الحروب الدينية التي تجر المنطقة الى مواجهات دامية تدفع ثمنها المجتمعات وتكون دوما على حساب امنها، تخطئ السعودية عندما تعتقد ان التلويح بالخطر الايراني الشيعي سيقضي على تطلعات شعبها الى الابد ورغم ان هذا التلويح قد نجح آنيا في تجاوز المطالب الاصلاحية ولو مرحليا الا انه في الامد البعيد يعتبر خطرا على السلم الاجتماعي والتعايش بين مختلف الفئات والطوائف.
وهزيمة ايران المرجوة لن تقضي على المطالب الاصلاحية كما تعتقد القيادة السياسية ويجب على هذه القيادة ان تعترف ان العلاقات مع ايران او غيرها هي علاقة سياسية بالدرجة الاولى وليست طائفية دينية كما يحلو للبعض تصويرها. وكم من زعيم هزم اعداءه في الخارج ليعود ويواجه شعبه في الداخل ليجد هزيمته هو في المرصاد. وربما القيادة السعودية تعرف هذه الحقيقة المرة لذلك تعتقد ان من مصلحتها ان يعيش المجتمع في حالة تشنج دائمة تحت مظلة التلويح بالخطر الايراني في نطاق حرب باردة طويلة الامد فتضمن بذلك الولاء الآني للاكثرية وتأجيل المواجهة المفتوحة مع مطالب الاصلاح السياسي. ولكن عليها ان تخرج من سرديات الاستهداف الوهمي الذي تلصقه باعدائها ومنافسيها وهو نمط اتبعته القيادة السعودية لاكثر من نصف قرن ان تنجح في القضاء على جذور مشكلتها الداخلية المنحصرة في كونها تعيش نظام الحكم الاسري المتفرد بالسلطة والمستأثر بالثروة. وربما ستصبح السعودية النظام الوحيد المنفرد بهذا النفط من الحكم فتظهر وكأنها وضع شاذ في المنطقة خاصة بعد الربيع العربي الحالي والذي فتح الباب على مصراعيه لتطوير بديل واقعي لانظمة الحكم القديمة. ومهما كانت نتائج هذا الربيع في المدى القريب والبعيد الا ان رياحه ستهب على المنطقة وتغير قواعد اللعبة السياسية الداخلية في اكثر من دولة بمعزل عن نتائج الحرب الباردة بين السعودية وايران. ومهما تشبث النظام بهذه الحرب واستغلها في التعاطي مع الشأن الداخلي الا انه سيجد نفسه وجها لوجه مع انكشاف خطابه الدعائي الوهمي ومن الافضل له ان لا يستجدي تسخين حرب غير معروفة العواقب مستعينا بالولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل وان يلجأ للدبلوماسية والسياسة بدلا من الطائفية والحروب الدينية حيث ان الصراع السياسي قابل للحلول اما الصراعات الدينية فهي مستعصية واكثر دموية.