تطالب الدولة السعوديين بتحمل إجراءات التقشف ولكن ماذا عن المليارات التي تنفق على العائلة السعودية الملكية وعلى المشاريع الكبرى وعلى السلاح؟
أعلنت السلطات السعودية يوم الاثنين عن إجراءات غير مسبوقة لإنقاذ وضعها المالي من الانهيار الوشيك بسبب سوء الإدارة وليس ببساطة بسبب وباء فيروس كورونا أو انهيار أسعار النفط.
فبدءا من شهر يوليو / تموز سترتفع ضريبة القيمة المضافة من خمسة إلى 15 بالمائة وسوف يتم توقيف بدل تكاليف المعيشة (وقيمته 1000 ريال شهريا / أي ما يعادل 266 دولارا)، وكلا الإجراءين يمثلان محاولة يائسة لإنقاذ اقتصاد دولة لم تزل تتعرض للنهب على مدى أجيال.
الحل النهائي
وما هذا التحرك سوى البداية، وذلك أن الحكومة قد تلجأ إلى الحل النهائي المتمثل بتقليص عدد العاملين في القطاع الحكومي، وخفض رواتب العاملين الحاليين في أجهزة الدولة، وإلا فسينتهي بها المطاف إلى العجز تماما عن دفع رواتبهم.
وحيث أن أسعار النفط لا تظهر عليها علامات التحسن، وبينما لا يلبث فيروس كورونا يعيث في الأرض حول العالم وداخل البلاد، لا يُعلم يقينا ما إذا كانت الزيادة الجديدة في ضريبة القيمة المضافة وتعليق بدل المعيشة سيولدان ما يكفي من المال لتعويض الدولة عن خسائرها الفادحة. لكن المؤكد أن كلا الإجراءين ما هما سوى محاولتين يائستين لدعم الإيرادات في وقت باتت فيه السلعة الأساسية، النفط، وبشكل متزايد أرخص من المياه داخل المملكة الصحراوية.
تتجاوز الآثار السياسية للأزمة تلك الإجراءات اليائسة المحدودة، والتي لن تكون بذاتها كافية على الإطلاق لوقف الانزلاق نحو المجهول.
يعتقد بأن ما يسمى بالعقد الاجتماعي السعودي يقوم على نوع من المقايضة، حيث تقوم الحكومة بتوفير خدمات شاملة مثل الوظائف في القطاع العام، والتعليم والإسكان والصحة، بينما يستمر المواطنون في المقابل في مبايعة القيادة والقبول بتهميشهم التام سياسيا والتنازل عن حق الاقتراع، بل وحتى الرضوخ للقمع باسم المحافظة على الأمن والثراء.
كان ذلك العقد الاجتماعي يقوم على التمني بدلا من التقدير الدقيق للعلاقات بين الدولة والمجتمع في السعودية. فمنذ اكتشاف النفط في عام 1933، لم يتوقف السعوديون بتاتا عن تحدي حكومتهم وحتى في عهود الثراء والرخاء.
الأيديولوجيا في مواجهة الاقتصاد
طوال القرن الماضي، كانت المعارضة لآل سعود، بالمجمل، تعبر عن نفسها بصيغة أيديولوجية لا ترتبط بشكل خاص بالوضع الاقتصادي المحلي الذي يعيش فيه الناس. فالقوميون العرب والإسلاميون السعوديون تحدوا الدولة انطلاقا من خطاب يركز على هوية الدولة بدلا من الوضع الاقتصادي أو المالي.
تحداها القوميون على أساس ارتباطاتها بالمشاريع الإمبريالية والغربية، بينما شغل الإسلاميون أنفسهم بمسائل تتعلق بالأصالة والإرث الإسلامي والالتزام بالإحياء الإسلامي العالمي، وكانوا يرون النفط في أيدي الدولة آلية تمكنهم من العمل على إنجاز مثل تلك المشاريع.
في ظل مثل تلك المشاريع الأيديولوجية الكبرى، وبينما استمرت الدولة في دفع رواتب المواطنين وتوفير خدمات دون المستوى، استمر سوء إدارة الاقتصاد، ووصل إلى مستويات جديدة تحت القيادة الحالية لولي العهد محمد بن سلمان.
ولكن مع تجدد المصاعب الاقتصادية وتراجع مستويات المعيشة، وذلك بسبب هدر الثروة في متابعة مشاريع لا طائل منها، وفي ظل فرض ضرائب جديدة، فقد تتنبه الأصوات الناقدة وتصحو على أوضاع تمس حياتهم هم.
إلى متى سيتمكن السعوديون من التزام الصمت إزاء ما يتعرضون له من إفقار بينما يشهدون في نفس الوقت استمرار النخبة في التمتع بما خصت به نفسها من امتيازات؟ آن للسعوديين أن يصحوا من غفوتهم وأن يركزوا على مصيرهم تحت نظام يتسبب في تآكل أمنهم الاقتصادي بينما يستمر هو في إنفاق المليارات على مشاريعه المريبة.
أين ذهب كل ذلك المال؟
لقد تم هدر المليارات من الدولارات محليا في مشاريع مثل رؤية 2030 وبرامج التحول الوطني وإنشاء المدن المستقبلية دون أي شكل من أشكال المحاسبة. من المؤكد أن السعوديين سيفقدون حماستهم في نهاية المطاف لتلك المشاريع الأسطورية الكبرى، والتي ما هي سوى نتاج آلة دعائية شريرة تعبر عن أوهام ونزوات ولي العهد.
والآن تطالب القيادة السعوديين بتقبل إجراءات التقشف. ولكن ماذا عن الرواتب الشهرية الضخمة التي يتقاضاها أمراء آل سعود والفروع التابعة لهم من خزينة الدولة؟ ناهيك عن غير ذلك من المنافع والامتيازات التي تهدف إلى إبقاء حشد ضخم من الأمراء مشغولين برحلات الصيد والإجازات الوثيرة في المنتجعات الأوروبية، وشراء الأندية الرياضية، واقتناء العقارات محليا وفي الخارج.
تلتزم القيادة الصمت إزاء التكلفة السرية لمثل تلك الرواتب التي يتقاضاها شهريا الأمراء الذين لا يقومون بشيء سوى أنهم ينتمون إلى العائلة المختارة، حيث أن سلالتهم السعودية تؤهلهم لتلقي مبالغ ضخمة كل شهر يتم اقتطاعها من خزانة الدولة دون أن يظهر لها أثر في كشف الحساب أو الميزانية.
أما إقليميا، فتنفق السعودية المليارات على جهود إعاقة الانتفاضات في عدد من البلدان العربية وعلى الحرب التي تشنها على اليمن، الأمر الذي يسارع من تآكل الثروة. ورغم الإنفاق الهائل على شراء الأسلحة التي لا توفر الأمن محليا ولا تضمن السلام إقليميا، فإن ذلك يبقى خارج نطاق النقد أو المحاسبة.
مرحلة جديدة
كان من نتائج الإنفاق السعودي على الصراعات الإقليمية أن فاقم من النزاعات المحلية ومكن أولئك الزعماء العرب الذين عقدوا العزم على حرمان مواطنيهم من العيش بكرامة. فالإنفاق السعودي لم يساهم فقط في هدر الثروة محليا بل وساهم في إطالة أعمار الأنظمة الفاسدة والدكتاتورية في كل أرجاء المنطقة.
وبينما تفرض ضرائب جديدة على السعوديين ويفقدون البدلات التي كانوا يتقاضونها، آن لهم أن يحولوا أنظارهم بعيدا عن قضايا الهوية باتجاه التفكير بمآلهم هم، وذلك في الوقت الذي تستمر فيه القيادة بنهب الدولة لصالح إثراء من في بطانتها وعلى مشاريع إقليمية لا تخدم سوى مصالحها الضيقة.
ما من شك في أن التآكل التدريجي في خدمات الدولة وفي الرواتب، في نفس الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع الاستهلاكية ويدخل الناس فيه في نفق طويل من الإفقار، سيؤدي ذلك إلى انطلاق شرارة معارضة سياسية جديدة، يحفزها ما تتعرض له البلاد من سوء إدارة لشؤون الدولة تحت القيادة الحالية.
موقع (ميدل إيست آي)