توفي أستاذ الأدب العربي عبد الله الحامد يوم الجمعة الأول من رمضان، بعد تدهور وضعه الصحي داخل المعتقل، فكانت وفاته صادمة وفي الوقت نفسه كاشفة لما تمارسه الحكومة السعودية من توحش ضد مواطنيها.
ولد عبد الله الحامد في مدينة بريدة في منطقة القصيم وسط جزيرة العرب، وعرف منذ مطلع التسعينيات مناضلا سياسيا فريدا من نوعه، حينما برز كمدافع حازم وعنيد عن حقوق الإنسان، وإصلاحي يبتغي التغيير الدستوري في المملكة.
تخرج عبد الله الحامد في كلية اللغة العربية في جامعة الرياض عام 1971، وبعد ذلك حصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر في مصر في النقد الأدبي. وبالإضافة إلى تدريسه اللغة العربية كان رحمه الله شاعرا معروفا.
كان عبد الله الحامد في عام 1993 واحدا من الستة الذين أسسوا لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، واعتقل في الخامس عشر من حزيران/يونيو من ذلك العام، وبعد إطلاق سراحه أعيد اعتقاله ثلاث مرات في الفترة من 1993 إلى 1996.
ثبت فيما بعد أن السجن كان بيته الثاني لكثرة المرات التي اعتقل فيها خلال السبعة والعشرين عاما الماضية، وبذلك يكون الحامد قد تعرض للاضطهاد في ظل حكم ثلاثة ملوك: فهد وعبد الله وسلمان.
وكان الحامد في عام 2009 قد تحدى الحظر المفروض على المجتمع المدني، وقام مع زمرة من زملائه ومن النشطاء بالإعلان عن تأسيس الجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية التي تعرف باسم “حسم”.
وبعد أن أمضى عدة سنوات وهو يدافع عن مشروعه السياسي في المحاكم السعودية، صدر في عام 2013 حكم على الحامد بالسجن لأحد عشر عاما، أضيفت إليها ستة أعوام أخرى من حكم إدانة سابق لم يكن قد نفذ، وأضيف إلى ذلك بعد إطلاق سراحه حكم بحظر السفر والتنقل.
توفي في السجن قبل إطلاق سراحه رحمه الله.
تجسير الهوة بين التقاليد
على النقيض من غيرها من مجموعات المجتمع المدني السعودي، كانت حسم بحق منظمة غير حكومية، ولم يكن عجيبا إذ ذاك ألا يكون من رعاتها أحد من أفراد العائلة الملكية. كانت الغاية منها الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية وعن الحقوق السياسية والمطالبة بالإصلاح السياسي. وركزت في نشاطها على دعم سجناء الضمير وفضح ممارسة التعذيب في السجون السعودية.
إلا أن أكبر مساهمة قدمها الحامد لنضاله السياسي، كانت صياغته للحقوق ومركزتها ضمن التقليد الإسلامي. فقد كان رحمه الله ينتمي إلى تيار من الإصلاحيين الإسلاميين عزمت الحكومة السعودية أمرها على قمعه وتجريمه واستهدافه بأقسى الوسائل، حتى لا يبلغ خطابهم الآخرين ويجذب انتباههم.
وعلى النقيض من الجهاديين السلفيين، كان الحامد ورفاقه يتمسكون بالجهاد السلمي ويصرون عليه لحماية المجتمع من تغول السلطة، وذلك من خلال المقاومة المدنية والتظاهرات والإضرابات والاعتصامات.
كان الجهاد السلمي يتطلب عملا شاقا تكتنفه المخاطر، إذ ينبغي أن يكون أداؤه خدمة للمصلحة الجماعية للمسلمين، وينبغي أن يخلو من الرغبات والطموحات الشخصية، سواء كان ذلك سعيا وراء المال أو الجاه.
كان جهاد الحامد هو جهاد الكلمة، ولذلك عمل من خلال العديد من النشرات إلى تبيان أن الجهاد العسكري قد يكون مطلوبا للدفاع عن البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية، أما داخليا فليس هنا من سبيل سوى الجهاد السلمي بالكلمة لتحصين الكيانات الداخلية، التي تناط بها مهمة إقامة العدل واحترام الحقوق.
دافع الحامد عن حق السعوديين في التظاهر، وأثبت أن مفهوم “الرهط” الإسلامي الذي يكافئ حرية التجمع السلمي في الحيز العام للمطالبة بالحقوق وفضح الظلم، إنما هو حق مركزي في الإسلام.
أغضب ذلك المؤسسة السلفية الرسمية، التي طالما طالبت الناس “بالهمس في أذن السلطان” إذا ما أرادوا التعبير عن رأيهم، حيث أضحى هذا الهمس، الذي يعرف بعبارة “النصح في السر”، واحدا من العلامات المميزة للتيار السلفي الرسمي.
كما أثبت الحامد أن التظاهر عمل مشروع في الإسلام، يتيح للناس المشاركة في العمل السياسي وإنكار الظلم. وكان من عواقب ذلك أن حقد عليه الرسميون من علماء السلطة وقضاتها ومن قبلهم المؤسسة الحاكمة.
وبفضل مهاراته الكتابية باللغة العربية ومعرفته العميقة بالدين الإسلامي، أضف إلى ذلك شغفه بإقامة مجتمع عادل، فقد تسنى له إعادة تفسير النصوص الإسلامية وإثبات انسجامها من حيث المبدأ مع الخطاب العالمي حول الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. لقد كان مفكرا إسلاميا أصيلا، ومدافعا صادقا عن الحق والعدل.
نموذج مستمر
انتهى نشاط عبد الله الحامد في عام 2013 عندما اعتقل هو وما يزيد عن عشرة من زملائه. حينها قامت الدولة رسميا بحل جمعية حسم بموجب أمر قضائي، وظل مؤسسوها يقبعون وراء القضبان دون أن يلوح في الأفق ولا حتى عفو ملكي يمكن بموجبه أن يتحرروا من أسرهم.
كانت التهم التي وجهتها الحكومة السعودية للحامد مزيجا من عبارات مبهمة، تضمنت فيما تضمنته ما يلي: نثر بذور الفتنة والعصيان، والتشكيك في استقلالية القضاء السعودي وهيئة كبار العلماء، ووصف النظام السعودي بأنه دولة بوليس، وتحريض الرأي العام ضد أجهزة الأمن والمخابرات، والأهم من ذلك، التحريض ضد الحاكم المسلم الشرعي للمملكة العربية السعودية.
ولما وقف الحامد، رغم ضعف صحته وهزال بدنه، في المحكمة يدافع عن نفسه ببلاغة وثقة، رأى فيه الكثيرون ذلك المدافع الفصيح عن حقوق الإنسان.
انتشر بين الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي دفاعه ذاك، الذي أوصل من خلاله لأنصاره ولعامة الجمهور لغة جديدة طالما تعرضت للقمع والمنع، تحت وطأة احتكار الدولة للدين باسم مؤسستها الدينية الرسمية، بما فيها من قضاة وعلماء ينتسبون إلى التيار السلفي الوهابي.
سوف يبقى مشروع الحامد حيا حتى بعد وفاته
ولسوف تظل لغة الحقوق التي صاغها شاهدة على نضاله؛ من أجل تحويل المملكة العربية السعودية من ملكية مطلقة إلى دولة دستورية تحمي مواطنيها وتضمن حقوقهم.
صاغ الحامد الحقوق بلغة دينية بدلا من الاعتماد على مفاهيم مستوردة، وزاوج بين الموروث والمفاهيم العصرية، التي تعد بحماية حقوق الإنسان وحقوق الملكية وحقوق الدفاع عن النفس ضد قضاء بشع ونظام ملكي متوحش.
بينما قامت الحكومة السعودية بتوفير مراكز إعادة تأهيل ومنتديات إعادة تعليم للمتشددين الذين لجؤوا إلى استخدام العنف ونفذوا هجمات خطيرة وبشعة ما بين عام 2003 وعام 2009، ظل الحامد قابعا داخل السجن؛ فقط لأنه أثبت لهم أنه أخطر عليهم من الذين يمارسون العنف الصراح.
لقد عكس الحكم عليه بمدة طويلة من السجن رعب الحكومة من الإسلام الإصلاحي ومن لغة المقاومة السلمية. وأما مراكز إعادة التأهيل من مستوى فنادق الخمس نجوم، التي روج لها النظام باعتبارها طليعة جهوده لمكافحة الإرهاب، فلم تكن سوى فرصا دعائية، بينما ظل الإصلاحيون السلميون رهن الحبس داخل سجن الحائر سيئ الصيت.
لقد حاول الحامد وصل الخطوط الفاصلة بين الجماعات الأيديولوجية التي كانت في الماضي يرفض بعضها بعضا، الإسلاميون والليبراليون على سبيل المثال، ورفض الفصل الطائفي بين السنة والشيعة، وبذل وسعه في سبيل الدفاع عن جميع سجناء الضمير، وكذلك عن الوافدين إلى المملكة.
عارض انعدام المساواة بين الجنسين، واعتبر النساء مواطنين ذوي أهلية كاملة، وذلك قبل وقت طويل من إقرار الحكومة رسميا بحقوق النساء. كان يؤمن بأن الحقوق للجميع، وكان بذلك بطلا وطنيا عن جدارة.
سوت تستمر رحلة النضال من أجل مجتمع عادل وحكومة شفافة وتمثيل سياسي في المملكة العربية السعودية، حتى بعد وفاة الحامد الذي ستذكره الأجيال القادمة إصلاحيا شجاعا، حازما وعنيدا.
بينما مايزال الكثيرون من زملائه رهن الحبس في السجون، بما في ذلك الاقتصادي محمد القحطاني والمحامي وليد أبو الخير، وكثيرون غيرهم، يذكرنا الحكم القاسي عليه بالسجن ثم موته وهو أسير داخله، بالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الحكومة السعودية لإسكات الإصلاحيين السلميين، وخاصة أولئك الذين يسيرون على نهج الحامد، في طريق شاق محفوف بالمخاطر.
نشر المقال في موقع “ميدل إيست آي”. ترجمة عربي21.