في خضم قمع محلي وتخبط إقليمي، تجلب السنة الجديدة للمملكة العربية السعودية آفاقاً قاتمة
إذا كان النجاح يقاس بالإنجازات، فلقد غاصت المملكة العربية السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان في مزيد من المشاكل على العديد من الجبهات خلال العام المنصرم.
على المستوى المحلي، تناوب على البلد متناقضين اثنين: الإصلاح والقمع. وأما إقليمياً، فقد تعرضت حقول النفط لهجومين اثنين نجم عنهما شل حركة الإنتاج وأجهضت مساعي المصالحة مع الجارة الخليجية قطر في مهدها.
وأما عالمياً، فمازال محمد بن سلمان عاجزاً عن إنقاذ سمعته كزعيم يمكن الوثوق به والاعتماد عليه، وذلك بعد مرور خمسة أعوام على المغامرة العسكرية الفاشلة في اليمن وجريمة قتل جمال خاشقجي أواخر عام 2018، وكلا الأمرين بددا الحماسة لمشروعه الذي كان يهدف من ورائه إلى جلب المستثمرين الدوليين وتعويم شركة النفط أرامكو في الأسواق العالمية.
لم ينجح ولي العهد على امتداد الجبهات الثلاث إلا في تقويض مصداقية المملكة وتلطيخ سمعتها وتكبيدها أضراراً لا قبل لأحد بإصلاحها.
النشطاء المغيبون في السجون
على الرغم من النشوة التي صاحبت إعلان محمد بن سلمان لخطط الانفتاح الاجتماعي والاقتصادي، والتي حررت المجال العام السعودي من بعض القيود التي كانت مفروضة على الفتيان والفتيات، إلا أن الموجات المتعاقبة من الاعتقالات التعسفية ماتزال قضية شائكة، حيث شهدت البلاد اعتقال المزيد من المفكرين ورجال الأعمال، والذين ما لبث معظمهم ينتظرون المثول أمام القضاء.
ومن هؤلاء على سبيل المثال شيوخ مثل سلمان العودة وعوض القرني، وناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة مثل لجين الهذلول، وزعماء عشائر وقبائل، وهؤلاء جميعا وجدوا أنفسهم يزج بهم خلف القضبان لفترات طويلة من الزمن. وفي غياب أي ضغط فعال من قبل المجتمع السعودي أو المجتمع الدولي، يواجه النشطاء المحبوسون خطر أن يطويهم النسيان إلا من بعض الهاشتاغات في تويتر مما يغرد به أفراد مجتمع سعودي بات يتشكل في المنافي.
يتحمل ولي العهد السعودي المسؤولية عن الهجرة القسرية لمئات السعوديين الذين انتشروا في الأرض بحثاً عن ملاذ آمن، وذلك بعد أن تحولت المملكة بسبب مقاربته التي لا تتساهل مع أدنى أشكال النقد ورغبته الجامحة للهيمنة على مقاليد الأمور والتدخل في كل شاردة وواردة إلى سجن كبير لكل من لديه رؤى أو أراء مغايرة.
لقد أخفقت إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية في توليد إجماع وطني، مما ترك الكثير من السعوديين بلا خيار سوى الفرار من البلاد واستئناف النضال في سبيل حرية التعبير من أقاصى الأرض. وحفزتهم أعدادهم المتزايدة على إيجاد قاعدة دولية في الخارج لإعادة التجمع وتشكيل صوت موحد يرفض الدعاية الصادرة عن النظام. وها هم المغتربون – الذين التم شملهم رغم ما بينهم من اختلافات في الأيديولوجيا والجندر والمذهب – ينظمون مؤتمرات الشتات كل عام، والتي يشهد هذا الشهر انعقاد أحدثها.
وبينما تعزز قطاع الترفيه والسياحة في المملكة العربية السعودية خلال عام 2019، إلا أن النظام مازال عاجزاً عن إعطاء مؤشرات على انفتاح حقيقي تتجاوز الدعاية التي تروج للحفلات الغنائية والموسيقية والمهرجانات وعروض السيرك، ناهيك عن أنه من غير المحتمل أن يتمكن القطاعان من توليد ما يكفي من الوظائف بما يلبي احتياجات الشباب العاطل عن العمل، فكلا القطاعين يتمحوران حول المزيد من الاستهلاك المكشوف بدلاً من الإنتاج الفعلي.
المصالحة الفاشلة
بينما قصرت الأزمتان الإقليميتان مع كل من اليمن وقطر عن منح ولي العهد أي انتصارات هذا العام، ماتزال جهود المصالحة في اليمن عاجزة عن الخروج بحل يقف على أرض صلبة وقادر على نزع فتيل الحرب بين الفصائل المتناحرة بما يسمح للمملكة بتجاوز المأزق الذي سببه لها تدخلها العسكري في البلاد.
في تلك الأثناء تجاهل أمير دولة قطر دعوة أرسلت له لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض هذا الشهر، ومازال الحصار المفروض عليها ينتظر الإعلان عن أنه كان خطوة خاطئة في الأساس. يوشك عام 2019 على الانتهاء ومازالت قطر فيما يبدو لا تشعر بحاجة ملحة للقبول بمصالحة دائمة مع المملكة وحليفتها دولة الإمارات العربية المتحدة.
لقد ألحق محمد بن سلمان من الأضرار بمجلس التعاون الخليجي ما لم يعد ممكناً إصلاحه. لم يسبقه أحد من حكام المملكة السعودية إلى انتهاج مثل هذه السياسة العدوانية تجاه أحد من جيرانه. وبينما كان الهدف هو عزل قطر، إلا أن الأمير أضحى الوحيد الذي عزلته سياساته المتشددة والتي استهدفت إذلال الدول الأخرى بدلاً من التعاون معها والسعي نحو حل الصراعات عبر القنوات الدبلوماسية.
لقد ارتدت سهام السياسة العدوانية التي انتهجها ولي العهد في التعامل مع الإقليم نحو نحره هو، وبات كثير من المراقبين يلومون المملكة العربية السعودية على التصدع الحاصل في العلاقات الخليجية، لدرجة أن مجلس التعاون الخليجي بات في عهد محمد بن سلمان عديم الفائدة كمنتدى إقليمي.
في مواجهة هذا الفشل الإقليمي، راح ولي العهد يمني نفسه بأن الموجات الجديدة من الاحتجاجات العربية في لبنان والعراق ستخلصه من خصومه الإيرانيين، حيث ينظر إلى هذه الاحتجاجات من داخل الرياض على أنها دفع باتجاه تقليص نفوذ إيران في البلدين.
ولكن، وعلى الرغم من أن هذه قد تكون من الأسباب التي أشعلت شرارة هذه الاحتجاجات، إلا أن ثمة عوامل كامنة خطيرة هي التي تقف وراء خروج الجماهير في البلدين إلى الميادين العامة، فالناس يطالبون بأكثر من مجرد طرد إيران – لقد خرج هؤلاء المهمشون للإعراب عن رفضهم للحكومات الفاسدة والفاشلة.
حسابات خاطئة
إن الاعتماد على المحتجين حتى يطردوا إيران ويستبدلوها بهيمنة سعودية حساب خاطئ. فلا المحتجون العراقيون ولا المحتجون اللبنانيون خرجوا إلى الشوارع سعياً لاستبدال متسلط سيء بآخر لا يقل عنه سوءاً. لا يفهم محمد بن سلمان ذهنية الشعب الثائر، فهو أكثر ارتياحاً مع القمع منه مع التحرر.
يكن جيرانه غير العرب في الإقليم، إيران وتركيا، لولي العهد السعودي مشاعر ملؤها التقزز والاشمئزاز، فلا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولا الرئيس الإيراني حسن روحاني لديهما أدنى استعداد للتنازل حين يتعلق الأمر بالتعامل معه. كلاهما يرفضان أخذه على محمل الجد ويترددان في إيلائه الثقة، حتى بالرغم من المحادثات السرية التي أجراها مؤخراً مع طهران.
مازال لدى النظام الإيراني من القوة والمنعة ما يمكنه من سحق أي احتجاجات محلية، وذلك على الرغم من مرور البلاد بشهور متعاقبة من التأزم الاقتصادي الشديد الناجم عن العقوبات الدولية المفروضة على البلاد. ولذلك لن يرى محمد بن سلمان تداعي الدولة الإيرانية في القريب العاجل، ولا مفر أمامه من أن يتعلم كيف يتوصل مع كل من تركيا وإيران إلى حلول وسط.
وطالما أخفقت المملكة العربية السعودية في إنجاز العدالة في قضية جريمة قتل جمال خاشقجي، وهي الجريمة التي وقعت على الأرض التركية، فلن تتحمس تركيا لإحداث أي تقارب مع ولي العهد. ولن يحل المشكلة مع تركيا الإعلان عن إصدار أحكام بالإعدام على خمسة متهمين في هذه الجريمة التي صدرت بارتكابها الأوامر من الدولة ذاتها، بينما لم توجه أي تهم للأفراد الثلاثة الذين قادوا العملية، بما في ذلك محمد بن سلمان وسعود القحطاني.
مازال المجتمع الدولي متردداً في مباركة الإصلاحات الاقتصادية التي أعلن عنها ولي العهد. ولئن كان قد تم أخيراً هذا العام الإعلان عن طرح ما لا يزيد عن واحد ونصف بالمائة من قيمة شركة النفط المملوكة للدولة، أرامكو، إلا أن قلة قليلة من المستثمرين الدوليين سارعت إلى الاغتنام من صفقة القرن هذه.
وطالما ظلت المملكة العربية السعودية تعاني من غياب الشفافية والحكم الرشيد وسيادة القانون، فسيظل صعباً إنجاز أي نجاح اقتصادي عالمي معتبر. وينطبق ذلك على طرح بعض أسهم أرامكو للبيع، الذي يبدو كما لو كان مزاداً محلياً أكثر منه اختراقاً في السوق العالمية.
لا تبدو السنة الجديدة مشرقة في ضوء استمرار حملات القمع المحلية والمغامرات الإقليمية. لقد خيب ولي العهد آمال شعبه وآمال القوى الإقليمية وآمال المجتمع الدولي.
لن يتسنى ضمان مستقبل أفضل للمملكة العربية السعودية إلا من خلال تغيير يطرأ على قيادتها، عل ذلك يعيد إليها ما فقدته من مكانة ويحسن سمعتها ما وراء الحدود.
(عن موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، ترجمة خاصة لـ”عربي21″)