تبدأ المؤتمرات الثلاثة اليوم، لتقف شاهدة على استخدام السعودية للدين لأغراض سياسية.
تنظم المملكة العربية السعودية في نهاية مايو / أيار ثلاثة مؤتمرات في مكة. سوف يترأس الملك سلمان الاجتماع العادي الرابع عشر لمنظمة التعاون الإسلامي، وهو المنتدى الإسلامي الذي تأسس برعاية الملك فيصل في ستينيات القرن الماضي.
كما سينعقد اجتماعان طارئان لمجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية في مكة، وستدور النقاشات خلالهما حول الهجمات الأخيرة في الخليج، والقضية الفلسطينية، والتضامن الإسلامي، والأقليات المسلمة، وغير ذلك من القضايا الساخنة.
حظر الإسلاموية
يكشف تعجل الملك بدعوة المسلمين في آخر شهر رمضان، شهر الصيام، إلى مكة لمناقشة قضايا ذات صبغة سياسية صارخة التناقض الكامن في سعي السعودية الحثيث مؤخراً لحظر وتجريم الإسلاموية.
لم تنعقد المؤتمرات الثلاثة لمناقشة مسائل دينية وإنما لحشد الدعم لعاهل المملكة العربية السعودية حول أزمات سياسية خطيرة وخلافية ومثيرة للنزاع والشقاق.
ما فتئت المملكة العربية السعودية تستخدم كجزء أساسي من استراتيجيتها القديمة المتجددة رمزية مدينة مكة المكرمة لتحقيق أهداف سياسية.
والحقيقة هي أن إقحام القضايا السياسية في مكة وأكنافها ما هو سوى عمل إسلاموي رغم أن الحركة الإسلاموية محظورة من قبل النظام الذي لا يضيره ممارستها في المكان الذي يمثل رمزية دينية مهمة لجميع المسلمين حول العالم.
وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النظام السعودي يريد الإسلاموية بدون الإسلاميين، حيث أن معظم هؤلاء يقبعون الآن وراء القضبان داخل السجون. وبات الملك هو الإسلامي الوحيد الذي يملك حرية استغلال مكة ورمزيتها الدينية في سبيل تحقيق أغراض سياسية.
غني عن القول أن مكة ليست مجرد مكان مهم للعبادة والحج وإنما مركز رمزي ذو مكانة فائقة الأهمية. تعود سيطرة السعوديين على هذا المكان المقدس إلى عام 1925 عندما سقطت المنطقة في أيدي القوات السعودية الوهابية الغازية.
منذ ذلك الحين والنظام السعودي يبذل قصارى جهده لبناء شرعيته على أساس ما يقدمه من خدمات للمسلمين في مكة وبالذات ما يقدمه للحجيج. من المعروف أن المسلمين يشغل بالهم، وهم محقون في ذلك، من يسيطر على مكة على اعتبار أنه يمثل السلطة السياسية الراهنة التي تدير شؤون المسجد الحرام وتتحكم بمنافذ العبور إليه.
أهمية مكة
رغم أهمية مكة كحجر زاوية في السردية السعودية الشرعية – حيث أصبح الملك يحمل لقب خادم الحرمين الشريفين منذ عام 1986 عندما تبنى الملك فهد تلك الصفة – إلا أن النظام السعودي ما لبث يصر على أن مكة مكان للعبادة وينبغي أن تظل بعيدة عن السياسة.
فالسياسة محظورة تاماً، وأي عالم أو ناشط مسلم يسعى لاستخدام الحيز أو مناسبة الحج للترويج لرسالة سياسية لا يواجه بالمنع فقط بل ويتعرض للعقاب الشديد.
يعتبر مثل هذا السلوك في العيون السعودية الرسمية من سمات الإسلاموية، أي المزج بين الدين والسياسة، بل باتت الإسلاموية حركة مجرمة تعلق على شماعتها كل المصائب التي حلت بالسعودية خلال السنين الأربعين الماضية.
يصر النظام السعودي على أن مكة حيز للدين فقط لا غير، وأن مكة ينبغي أن تظل مفتوحة لممارسة نمط من الإسلام يركز على الشعائر التعبدية والطقوس التي يتوقع من المسلمين الذين يأتون للعمرة أو للحج ممارستها.
إلا أن النظام السعودي لا يلتزم بما يفرضه على مواطنيه وعلى المسلمين، إذ لا يستخدم مكة لأغراض سياسية أحد مثلما يستخدمها النظام السعودي وعلماء الدين التابعون له والذين يهيمنون على منبر الخطابة في مكة.
وما المؤتمرات الثلاثة التي تنعقد في مكة إلا استمرار للممارسات السعودية التي تمزج الدين بالسياسية، وأين؟ في مكة من بين كل الأماكن.
الدعاية السعودية
لا يوفر أئمة الحرم المتعاقبون في مكة فرصة إلا واستغلوها للهتاف أو التغني أو الترنم بالمديح للملوك السعوديين، أمام جماهير المسلمين الغفيرة التي غالباً ما تتكون من مسلمين جاءوا للحج أو فقط لزيارة عابرة.
ولذلك فإن الإشادة بالملك السعودي وتوقع أن يتجاوب المسلمون مع ذلك بقول “آمين” ما هي سوى دعاية سعودية ممجوجة يتم فرضها على المسلمين، والذي جاء معظمهم إلى مكة لأسباب لا تمت بصلة لما يتم قذفهم به من دعاية سعودية.
معروف أن أئمة الحرم في مكة درجوا انطلاقاً من منبر الخطابة على تحذير الناس، سواء كانوا مواطنين أو غير مواطنين، من المشاركة في أي نشاط يصنف داخل المملكة العربية السعودية على أنه نشاط سياسي. وهذا يمكن أن يتراوح بين النقاش السياسي العادي بين الحجاج المجتمعين إلى الهتاف بشعارات تندد بتلك الدول أو بحكامها حيث ترتكب المظالم ضد المسلمين، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي يريد الملك السعودي من حكامه الآن مناقشتها في المؤتمرات التي دعاهم إليها.
كل من يعرب عن دعمه للفلسطينيين في مكة أو يتحدث عن معاناة المسلمين في الصين أو حتى يندد بالإسلاموفوبيا وبزعماء العالم الذين يروجون لها ويسعرون نيرانها، يمكن أن يتعرض لعقاب شديد، فمثل هذه الأمور لا يحسن نقاشها إلا من وراء الأبواب المغلقة وبين ضيوف المملكة.
لا يحق للمسلمين الإدلاء بآرائهم والتعبير عن وجهات نظرهم في أي مكان، وبالذات ليس في داخل مكة. فمثل ذلك يمكن أن يصنف على أنه من الإسلاموية الخطيرة، يعاقب فاعله بالسجن لفترات طويلة، بل وقد يعاقب بقطع رأسه.
ولذلك، وانسجاماً مع السرديات الدينية الرسمية السعودية، يعتبر الحاكم فوق كل هذه القيود، وبإمكانه ممارسة كل ما يحظره على غيره.
الحظر والإقصاء
يتحكم النظام السعودي بمن يُسمح لهم بالقدوم إلى مكة ومن لا يُسمح لهم، ومن المؤكد أن الأعداد المتزايدة من المنفيين واللاجئين السعوديين ليسوا من ضمن من يرحب بمجيئهم أو يسمح لهم بالزيارة. ولطالما منع النظام في الماضي مسلمين من دخول مكة بل وأعاد حجاجاً من المطار، حارماً إياهم من القيام بركن مهم من أركان الإسلام، لا يكتمل دين المسلم بدونه.
كل مسلم ناقد للنظام السعودي فهو غير مرغوب به في مكة. ومن ذلك ما حصل مع الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، الذي وصل جدة محرماً في موسم حج عام 2007 ولكنه أعيد من المطار ولم يسمح له بأداء مناسك الحج.
ومن ذلك أيضاً العداوة التاريخية تجاه الحجاج الإيرانيين لرفضهم الخضوع للقيود التي يفرضها السعوديون على النشاط السياسي في مكة، حتى أن بعضهم رحل وتعرض لمعاملة خشنة عندما هتفوا في ثمانينيات القرن الماضي بشعار “الموت لأمريكا”.
أما الحجاج القطريون، فبدأوا يحذرون من زيارة مكة بعد عام 2014، ثم امتنعوا تماماً في عام 2017 بعد أن فرضت السعودية الحصار على قطر، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى الحضيض. والآن، وجهت دعوة إلى أمير قطر للمشاركة في القمم المنعقدة في مكة، ولكنه لن يحضر.
وبسبب ممارسات الحظر والإقصاء الجائرة بات كثير من الزعماء المسلمين وكذلك النشطاء يحذرون من توجيه أي نقد علني لسياسات النظام السعودي خشية أن تُدرج أسماؤهم ضمن قائمة الأشخاص الممنوعين من دخول مكة، علماً بأن منعهم من الدخول إلى الأماكن المقدسة ما هو سوى عمل سياسي جائر يمارسه النظام السعودي بكل تنطع وتكبر، ولا تكاد تجد له نظيراً سوى في المشاعر الحرام.
إخفاق دائم
سوف يمنى بخيبة أمل كل من يرجو خيراً أو يتوقع قرارات جادة من مؤتمرات مكة الثلاثة، حيث تشير التجربة التاريخية لمثل هذه اللقاءات إلى إخفاق دائم في تحقيق حتى أدنى مستويات الوحدة الإسلامية تجاه القضايا السياسية الهامة.
بالطبع سوف تصدر عن القمم بيانات مشتركة تعيد التأكيد على وحدة وتضامن الأمة الإسلامية في حالة مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، وسيصدر ما هو أكثر من ذلك عن الاجتماعات الطارئة الأخرى.
ويتوقع أن يكون الخطاب كله موجهاً ضد إيران التي تحملها المملكة العربية السعودية المسؤولية عن الهجمات الإرهابية الأخيرة في الخليج.
إذا ما اعتبرنا المؤتمرات محاولة سعودية أخرى لإقناع المسلمين حول العالم بإبداء حالة من التضامن مع الأجندة السعودية التي تستهدف إلحاق الهزيمة بإيران، فلا يتوقع أن يفلح السعوديون في ذلك.
فالعالم الإسلامي – وكما هو ديدنه – تكاد تنهكه المشاكل الداخلية ولن يسارع إلى مناصرة السعودية في حروبها. وإذا كان الهدف هو الحصول على دعم للخطة الغامضة التي باتت تعرف بصفقة القرن لإنهاء القضية الفلسطينية، فقد يكون ذلك عسيراً في الوقت الذي يتجه المسلمون فيه بشكل متزايد نحو رفض مثل هذه المشاريع الضخمة والتي تهدف إلى تصفية واحدة من أهم القضايا التي ما فتئت تشغل بالهم لأكثر من نصف قرن.
لقد أصبحت جامعة الدول العربية كياناً ميتاً بعد أن أهلكتها الخلافات بين أعضائها. أما مجلس التعاون الخليجي فهو بحاجة إلى معجزة لترميم التصدعات التي حصلت فيه جراء إقصاء قطر وفرض الحصار عليها، بغض النظر عن الدعوة الأخيرة التي وجهت لقيادتها للمشاركة في قمة مكة الطارئة.
تأتي المؤتمرات الثلاثة بمثابة احتفال عظيم بانقضاء شهر رمضان، وربما أريد منها أن تكون بمثابة احتفال بمقدم العيد، يشارك فيه زعماء آخر ما يتمناه الواحد منهم هو أن يُجر إلى حرب تنشب في الخليج.
لربما شعرت المملكة العربية السعودية بخيبة أمل حينما سمعت بالتصريح الصادر عن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب والذي أعرب فيه عن احترامه للشعب الإيراني وأكد فيه أنه لا يسعى إلى تغيير نظام الحكم هناك وأن كل ما يريده هو التزام إيران بإنهاء برنامج التسلح النووي.
يمثل ذلك مفارقة صارخة مقارنة بما عهده الناس عنه من تصريحات يسخر فيها من الملك السعودي مذكراً إياه دوماً بأنه لولا الولايات المتحدة لانهار النظام في الرياض. إن توجه السعودية نحو المسلمين والعرب ونحو شركائها في الخليج لن يغني عنها شيئاً ولن ينفعها كل أولئك كبديل لالتزام أمريكا بالوقوف معها في وجه إيران.