تحدثت مقالة نشرتها مؤخراً صحيفة الوول ستريت جورنال عن أن موظفي الدولة في السعودية يعطلون خطط ولي العهد للإصلاح. تقدم المقالة تحليلاً عميقاً وشاملاً للآليات التي يتم من خلالها التعامل مع الاقتصاد السياسي السعودي ولتطلعاته ومقايضاته.
ولكن المقالة تسلط الضوء على العلاقة المضطربة أحياناً بين ولي العهد محمد بن سلمان وموظفي الدولة.
الاقتصاد الجديد
من حين لآخر، والمرة تلو الأخرى، يبدو موظفو الدولة عازمين على إحباط خطط محمد بن سلمان لتنفيذ رؤيته التي تسعى إلى تحويل اقتصاد المملكة الثري – ولكنه في نفس الوقت محدود ومعتمد على النفط – إلى اقتصاد عالمي متنوع المصادر وعصري جداً.
من خلال تحويل أقلية صغيرة من جواهر التاج الاقتصادية إلى نقود، ببركة أسواق المال العالمية، قد يتسنى إعادة استثمار الفائض الاقتصادي في مشاريع عصرية جداً مثل الطاقة الشمسية وأوبر وما يشبههما. وماذا يمكن أن يكون الخطأ في ذلك؟
لا يعدو الأمر كونه تحولاً اقتصادياً كما تنص عليه الكتب مستمداً من كتاب صندوق النقد الدولي ومن المستشارين الاستراتيجيين المدججين بمؤهلات “الاقتصاد الجديد”. ولكن بيروقراطيو المملكة، كما يقال لنا، يتعمدون التباطؤ في تنفيذ البرنامج ويعيقونه بل وحتى يسخرون منه جهاراً. هل هم ببساطة متمردون “لا يفقهون ما الذي يجري من حولهم” أم أن ثمة أسباب أخرى تفسر تحفظهم؟
يبدو كما لو أننا سمعنا كل ذلك من قبل. فقد شهدت المملكة المتحدة اتهامات بحدوث تمرد في صفوف موظفي القطاع العام ضد الثورات الاشتراكية وضد ثورات السوق الحرة على قدم وساق، وذلك في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وخلال حكم رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر. ومؤخراً أضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “الدولة العميقة” إلى “الأخبار الزائفة” كقوة تقاوم رغبته في تنفيذ وعوده الانتخابية.
إلا أن صورتين أخريين تخطران بالبال، الأولى من حكاية نايجلهوثورن بعنوان “نعم سعادة الوزير” في شخصية السير هامفريأبلبي والأخرى في حكاية روان أتكينسون بعنوان بلاكادر الثالث في شخصية خادم ولي العهد.
في القصة الأولى يستخدم السير هامفري كل أشكال التشويش والبلبلة لكي يحبط أجندة وزيره الذي أصبح من بعد رئيساً للوزراء، غالباً لأنه كان يرى بأنه أعلم وأحكم من ذلك السياسي الجاهل، ولكنه كان يقوم بذلك أيضاً ليقينه بأن من واجبه أن يحمي قطاع موظفي الدولية من الإزعاج المؤقت الذي يسببه لهم أرباب عملهم السياسيون.
وفي القصة الثانية يسعى خادم ولي العهد بلا كادر إلى استخدام ذكائه في استغلال سيده التافهوالغبي في نفس الوقت.
حماية الدولة
بينما نقاوم إغراء مقارنة محمد بن سلمان بالسياسي الأخرق في القصة الأولى أو بالأمير التافه في القصة الثانية، قد نتساءل ما إذا كان المسؤولون السعوديون يقومون بحماية الدولة أم أنهم يقومون ببساطة بحماية مصالحهم، أم الأمران معاً؟
من القضايا المثيرة التي تطرحها مقالة الوول ستريت جورنال ذلك المدى الواسع للتقديرات المقترحة لشركة أرامكو. تبدأ التقديرات عند مبلغ 2 تريليون دولار، وهو الرقم الذي يبدو أنه مستمد من المائة مليار التي يمكن أن تنجم عن عرض خمسة بالمائة من قيمتها الإجمالية، نزولاً إلى ما لا يتجاوز 666 مليون دولار، والتي تمثل أدنى تقدير رسمي لقيمة الشركة.
بينما يختلف الاقتصاديون والماليون في تقديراتهم لقيم الشركات، فإن ما يدفع إلى ذلك في العادة هو الأضعاف المختلفة لشركات التقنيات العالية التي يتوقع لها أن تحقق نمواً كبيراً في المستقبل. وهذا الأمر أقل شيوعاً في حالة القطاعات “القديمة” مثل قطاع الطاقة، إلا إذا كانت هناك آراء متباينة بشكل واسع حول الاحتياطيات، وهو ما لا ينطبق على حالة الحقول النفطية السعودية التي خضعت للكثير من الأبحاث.
فلماذا إذن هذه الفروق في التقييمات والتي تصل إلى ثلاثة أضعاف؟ تشير المقالة إلى احتمال واحد – رفع متعمد لسعر الاستهلاك المحلي الذي كان فيما مضى مدعوماً من قبل الدولة – ولكن هذا ضمن سياق السعي إلى رفع التقدير المنخفض إلى أعلى باتجاه التقدير الأصلي، وهو أمر مرفوض سياسياً.
لكن التفسير الأكثر احتمالاً هو الحدود المطموسة بين ما هو مملوك للمؤسسة وما هو مملوك للدولة وما هو مملوك للأمير. كم هي تلك النسبة من واردات أرامكو التي يمكن فعلياً أن تنسب إلى الجزء المؤسسي الذي سيعرض للاكتتاب العام؟ في هذه الحالة، يمكن لمسألة التقييم، والتي لا استغناء عنها في عملية العرض للاكتتاب العام، أن تثير تساؤلات سياسية واقتصادية حول المملكة.
لا شفافية
ويرتبط بذلك موضوع الشفافية. تسلط مقالة الوال ستريت جورنال الضوء على الجدل الدائر حول ما إذا كان الاكتتاب سيكون في نيويورك أم في لندن، حيث ينظر إلى الأولى على أنها الأعلى خطورة من حيث النزاعات القضائية الخاصة بالمساهمين بينما اعتبرت الأخرى غير شفافة إلى حد مطمئن.
لو وضعنا تقدير قيمة الشركة جانباً، فما الذي يوجد لدى أرامكو والمملكة وقطاع موظفي الدولة فيها حتى يسعون إلى إخفائه؟ بالنسبة لبلد اشتهر بفساده ويحتل المرتبة 49 من 100 على مؤشر الفساد لدى منظمة الشفافية الدولية فإن فكرة الشفافية لا تروق إطلاقاً لموظفي الدولة وللأمراء على حد سواء.
ولذا فإن موظفي الدولة المتمردين ربما يسعون ليس فقط إلى حماية سادتهم بل وإلى حماية أنفسهم.
التفسير الآخر الأقل تشككاً هو ذلك الذي يرى بأن قطاع موظفي الدولة في السعودية يسعى ببساطة إلى اتخاذ الإجراء الصحيح لصالح بلدهم وذلك من خلال حماية ثروة البلاد الوطنية بدلاً من رهنها لصالح مغامرات غير مثبتة وتغلب عليها المضاربة. بمعنى آخر، نحن نتحدث عن السير هامفري في أحد أيامه الجيدة.
قد تكون رؤية ولي العهد وليدة حالة من التفكير القائم على التمني إلا أن التطبيق يثبت تارة أخرى بأن الأمر بعيد المنال، وهنا يثبت موظفو القطاع الحكومي أنهم واقعيون حين يعملون على كبح جنون العظمة لدى سيدهم.
يملك هذا الأخير السلطة لفصل كل أولئك الذين يقاومون خططه واستبدالهم جميعاً بطاقم جديد على استعداد دائماً لإقرار رؤى الأمير.
يبقى أن نرى كيف يمكن للاقتصاد السعودي أن يتحول دونما محاسبة ولا سيادة قانون ولا شفافية.
لا مشكلة في أن يحلم المرء بتحول نيوليبرالي، إلا أن المشروع يحتاج إلى أهم قاعدة للاقتصاد الفعال، أي كشف النقاب عن كل شيء، والاستقرار السياسي والمكاسب المرئية.
(عن موقع “ميدل إيست أي” البريطاني، مترجم خصيصا لـ”عربي21″)