تعكس موجات الاعتقالات الثلاث التي أمر بها محمد بن سلمان حتى الآن إصابة الرجل بما يشبه جنون الارتياب، حيث لا يبدو أنه قادر على التمييز بين الصديق والخصم. وعلى الرغم من أنه يكاد يكون قد وصل إلى مستوى من الإجماع فيما يتعلق بارتقائه إلى العرش إلا أن محمد بن سلمان يتصرف كما لو كان منصبه ذاك لايزال بعيد المنال.
الشعور بانعدام الأمن
يمكن تفسير حملات الاعتقالات هذه على أنه ناجمة عن الشعور بانعدام الأمن، وآلية للقمع، أو استراتيجية لتجييش الجمهور في سبيل ضمان الموافقة على ما يتخذه من سياسات وما ينتهجه من أسلوب في القيادة، ناهيك عن شرعيته كولي عهد للعرش.
ولكن كل واحدة من حملات الاعتقال تستهدف أفرادا معينين بطريقة يبدو أن المقصود منها تكريس لعبة العروش التي تجري داخل البيت السعودي. وهذا يسلط الضوء على انعدام قدرة محمد بن سلمان على التركيز على تطوير الرؤية الاقتصادية التي تحدث عنها عندما نصب وليا للعهد. كما تعكس الاعتقالات رغبة شريرة في تعزيز السلطة من خلال القمع بدلا من الإجماع.
كان أول المستهدفين في حملة أيلول/سبتمبر 2017 جمهرة من الإسلاميين من مختلف التوجهات. اتهم هؤلاء جميعا بالترويج للإسلام الراديكالي (المتطرف) في الوقت الذي كان ولي العهد يسعى إلى الانتقال بالمملكة العربية السعودية إلى إسلام أكثر اعتدالا. وكان من بين المعتقلين عدد من أبرز علماء الدين والمفكرين بل وحتى الاقتصاديين ورجال الأعمال.
لم يكن التطرف أمرا مشتركا بينهم، وإنما وحدهم كمجموعة ترددهم سواء في الإشادة برؤية الأمير الاقتصادية أو التنديد بقطر واعتبارها مصدراً للإرهاب. وكان إضافة إلى ذلك، وبكل بساطة، ناقدين للسياسات التي يتبناها الملك سلمان وابنه.
وهؤلاء لا يمكن اعتبارهم سوى سجناء رأي، وليس بحال من الأحوال خونة كما وصمهم النظام بعد إلقاء القبض عليهم مباشرة. واشتملت قائمة المعتقلين على الشيخ سلمان العودة والشيخ عوض القرض، ولحق بهم اقتصاديون مثل عصام الزامل بالإضافة إلى العديد من الأكاديميين والصحفيين والشعراء.
موجات متعاقبة من الاعتقالات
لتبرير الاعتقالات، استخدم النظام التهمة المعلبة الجاهزة، ألا وهي الانتماء إلى منظمة الإخوان المسلمين المحظورة. ومن التهم الأخرى التي باتت وصمة متكررة فيما تبع ذلك من اعتقالات تهمة “الاتصال مع كيانات أجنبية”، والغرض منها القضاء على أي صوت ناقد، بغض النظر عن مصدره، سواء جاء من طرف الجهاديين الراديكاليين أو من طرف الإسلاميين الذين يطالبون بالدستورية الملكية أو من طرف رجال الأعمال والاقتصاديين.
كانت موجة الاعتقالات الثانية مدهشة وأكثر استعراضية، حيث كانت الشخصيات التي تعرضت للاعتقال والمكان الذي اعتقلوا فيه كلاهما من خارج المألوف. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2017، ألقي القبض على شخصيات بارزة مثل متعب بن عبد العزيز، رئيس الحرس الوطني في المملكة العربية السعودية، ورجل الأعمال الملياردير الوليد بن طلال، والعديد من أبناء النخبة الاقتصادية والإدارية، وجمعوا جميعا واعتقلوا داخل فندق ريتز كارلتون الرياض ذي الخمسة نجوم.
وصفت حملة الاعتقال تلك بأنها إجراء لمكافحة الفساد بهدف تخليص المملكة العربية السعودية من الذين هدروا أموالها خلال الفترة السابقة. ولكن في غياب تام لأي محاكمات علنية ودون التقدم بأي أدلة ضد المتهمين ليطلع عليها الجمهور، ثم خضوع عدد من السجناء للضغوط ودفع كل واحد منهم فدية لضمان إطلاق سراحه، بات من الصعب جداً بلع الرواية الرسمية.
كان ذلك إجراء متعمدا بهدف القضاء على منافسي ولي العهد وخصومه داخل العائلة وخاصة من بين أبناء عمومته وكذلك لمعاقبة الأثرياء منهم وحرمانهم من قدر كبير من امتيازاتهم في وقت كانت الحاجة فيه ماسة إلى تمويل الكثير من المشاريع.
إلا أن تلك السردية الشعبوية المتذرعة بمكافحة الفساد كانت تلقى رواجا وقبولا لدى كثير من السعوديين الذي عانوا من الفساد وباتوا من ضحاياه، وخاصة حينما كانت القطط الكبيرة تستغل مواقعها داخل الحكومة أو ما تتمتع به من امتيازات لهدر مزيد من الأموال.
كان السعوديون على استعداد لتصديق الرواية والإشادة بولي العهد لاستهدافه أقاربه في حملة مكافحة الفساد. ولكن، في الثاني من مايو أيار ورد خبر مفاجئ باعتقال شاب من عائلة آل الرشيد في الكويت وترحيله إلى المملكة العربية السعودية، ومعروف أن آل الرشيد كانوا يحكمون إمارة حائل في شمال ما بات الآن يعرب بالمملكة العربية السعودية إلى أن هزمهم آل سعود في عام 1921.
كان هذا الشاب هو ابن عمي نواف الرشيد البالغ من العمر تسعة وعشرين عاما، وهو ابن طلال، الشاعر الشهير الذي اغتيل في ظروف مريبة في الجزائر بينما كان في رحلة صيد في عام 2003. لم يكن طلال، والد نواف، مجرد شاعر مشهور بل وشخصية أدبية ذاع صيته في كل أنحاء الخليج وما بعد الخليج، حيث كان شعره النبطي (أو ما يسمى أحياناً بالشعر البدوي) يلهب المشاعر ويطلق العنان للخيال في أذهان كثيرين ممن كانوا يفهمون مضامينه التي تشير إلى أحداث الماضي البعيد.
وهو حفيد عبد العزيز الذي حكم حائل في مطلع القرن العشرين، ولذلك كان الشاب نواف يحمل على عاتقه عبء التاريخ وتلاحقه لعنة الاسم والسلالة، التي يقال إن فرائص آل سعود ترتعد لها. بعد اغتيال والده انتقل نواف للعيش مع والدته القطرية وحصل على الجنسية القطرية.
كان نواف قد دعي من قبل قبيلة شمر في الكويت للمشاركة في أمسيات شعرية، وفعلا شارك فيها على مدى ثلاثة أيام حيث ألقى قصائده، وذبحت على شرفه الذبائح وشهدت الأمسيات عروض رقص بالسيوف.
ينبغي فهم مراسيم الضيافة التي أقيمت على شرف نواف ضمن سياق الموقف الذي تتبناه قبائل مثل شمر في أراضي الصباح. لربما أرادوا بذلك توجيه رسالة إلى زعيمهم بأنهم مازالوا أصحاب شأن وأن بإمكانهم تجييش الدعم وتحقيق التضامن القبلي.
ونظرا لأن كثيرين من أبناء شمر في الكويت هم من فئة البدون، الذين مازالوا يحرمون من حق الحصول على الجنسية الكويتية رغم وجودهم في البلد منذ زمن طويل وعاشوا فيها لأجيال متعاقبة، فقد نظمت القبيلة ما يشبه الاستعراض المسرحي لتوجيه رسائل محددة. ومع ذلك، فإن العديد من أبناء شمر يحملون الجنسية الكويتية ويتمتعون بحق المواطنة الكاملة ويشاركون في الانتخابات، وبعضهم فاز بمقاعد في البرلمان.
طمس التاريخ
من المؤسف أن يكون نواف قد استخدم من قبل العديد من الجماعات، كل لأغراضه الخاصة. طالب السعوديون بتسليمه لهم ووافقت الكويت على ذلك. ولقد أعلنت وزارة الداخلية الكويتية أنها، وتطبيقاً لبنود اتفاقية التعاون الأمني المشترك بين دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي فقد سلمت نواف إلى المملكة العربية السعودية، حيث تم إلقاء القبض عليه واعتقاله.
وكان قد دخل الكويت بجواز سفر قطري، إلا أن ذلك لم يشفع له. يعكس التصريح الكويتي الغامض ما تتمتع به المملكة العربية السعودية من نفوذ داخل الكويت. في نفس الوقت تحرص قطر على إبقاء نافذة مفتوحة بينها وبين الكويت التي رفضت الانحياز إلى أي من أطراف النزع القطري السعودي بل وحاولت للتوسط بين الطرفين، ولكن دون جدوى.
لم يصدر عن القطريين بيان رسمي بهذا الشأن، وكل ما حصل أن منظمة قطرية لحقوق الإنسان وجهت انتقاداً لما فعله الكويتيون.
يعتبر اعتقال شاب بريء وغير مسيس من عائلة آل الرشيد، والذي يرتبط اسمه بفترة زمنية غابرة، نوعاً من الطمس للتاريخ. لربما خشي ولي العهد من أن تتمكن قطر من إعادة إنتاج قيادة بديلة وأن تنجح في تدشين حقبة جديدة من المزاعم القبلية والمزاعم المقابلة.
وهذا ما سعت إلى فعله السعودية نفسها حين حاولت إنتاج قيادة قطرية بديلة من خلال الترويج للشيخ عبد الله بن علي آل ثاني كبديل محتمل لحاكم قطر الحالي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلا أن مشروعها وصل إلى طريق مسدود.
بالإضافة إلى ذلك، حينما نشبت الأزمة بين قطر والسعودية وبدأ الصراع بينهما في صيف 2017، نظمت مجموعات تنتمي إلى مرة وقحطان مهرجانات قبلية- ومعروف أن لهاتين القبيلتين امتدادات داخل قطر- واستمرت هذه المهرجانات بشكل منتظم إلى حين وذلك بهدف التنديد بأمير قطر. ويبدو أن المملكة العربية السعودية التي سعت إلى تجييش القبائل واستخدامها في صراعها مع قطر باتت تخشى أن تلجأ قطر إلى نفس الإجراء مستفيدة من وجود نواف داخل قطر.
وسعيا منها إلى قطع الطريق على مثل هذا التدخل في الشؤون القبلية فقد قامت المملكة العربية السعودية بكل بساطة باختطاف نواف، الذي لا يعرف مكان تواجده منذ الثاني عشر من أيار/مايو.
حركة أنثوية سعودية ناشئة
وأخيرا، وصلتنا هذا الأسبوع أخبار اعتقال سبع من النساء المناضلات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة وبعضهن محاميات. وفي تحرك غير معتاد ثم نشر صور النساء في الصحافة السعودية تحت عناوين تشيد بالقيادة السعودية التي تخلصت من هؤلاء الخونة الذين تخطوا الخط الحمر، خط الوطن المقدس.
كن هؤلاء الناشطات من أمثال عائشة المانع وعزيزة يوسف ولجين الهذلول يناضلن في مجال حقوق المرأة، ويطالبن برفع الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارة وبإلغاء نظام الولاية على النساء. أكبر المعتقلات سناً تبلغ السبعين من عمرها وأصغرهن في أواخر العشرينيات.
إنهن يمثلن حركة أنثوية سعودية مستقلة ناشئة، تجسر الهوة بين الأجيال وتجتهد في مجال نشاطها بدعم من قاعدة شعبية عريضة. لم تكن هؤلاء النسوة من حريم السلطان – من أنثويات الدولة اللواتي ينتظرن التعيين في مناصب عليا في الدولة ليشكلن علامات رمزية على ما يفترض أنه برنامج ولي العهد لتمكين النساء. وما كانت هؤلاء المناضلات ليتوقف نضالهن عند حد قيادة المرأة لجيبات التويوتا.
هل بدأ يشعر محمد بن سلمان بوجود حالة من عدم الارتياح داخل الصف الوهابي الموالي له بعد أن سمح للنساء بقيادة السيارات وبحضور الحفلات الموسيقية والتوجه إلى دور السينما؟ هل يرغب في استرضاء المؤسسة الدينية وطمأنتها على أنه مازال في صفها بوصفه مسلم معتدل يمنح النساء واحدا من حقوقهن باليمين ويسلبهن الحرية باليد الأخرى؟ لجأت الصحافة السعودية إلى لغة غامضة ولكنها في نفس الوقت ملغومة لتبرير حملة اعتقال النسوة، بما في ذلك وصمهن بالخيانة، ولعل هذا يعكس الرغبة في تجييش السعوديين ضد عدو أجنبي وهمي. هل يكون هذا العدو هو إيران، أم قطر، أم كليهما؟
طالما أن الضمير السعودي قابل للتلاعب بحيث يوهم بأن المملكة يجري استهدافها من قبل شياطين أجنبية وأنها تتعرض للحسد من قبل أعداء عازمين على تقويض أمنها ودينها ومصلحتها القومية، فالأمر في واقع الأهم لا يهم.
على الرغم من اختلاف المجموعات التي استهدفت خلال الشهور الماضية، فثمة خيوط مشتركة توحد بين حملات الاعتقال هذه. محمد بن سلمان عازم على نشر الرعب والقضاء على كل معارضة وردع المجموعات القبلية، ويريد أن يقضي في الحاضر على كل ما يذكر بالماضي البعيد، ويريد أن يحول دون أن يطفو هذا الماضي تارة أخرى على السطح، ويسعى إلى وأد حركة أنثوية شعبية قبل أن تتحول إلى حراك سياسي يطالب ليس فقط بحقوق النساء بل وأيضا بحقوق الرجال. في نهاية المطاف، من ذا الذي يقول بأن الأنثوية ليست حراكاً سياسيا؟